تواجه سلطة أحمد الشرع في سوريا تحديات مصيرية بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024. فرغم النجاح العسكري الذي حققته هيئة تحرير الشام، إلا أن شروط واشنطن لبناء الثقة والاعتراف الدولي قد تشكل قنبلة موقوتة تهدد استقرار الحكم الجديد.
تكمن أخطر هذه التحديات في مطلب محاربة تنظيم داعش الذي يتخذ من وصول الشرع إلى السلطة ذريعة للتحريض ضده، خاصة مع تاريخ العداء بين الطرفين وتغلغل عناصر داعش داخل الفصائل المسلحة في سوريا.
الشروط الأمريكية لبناء الثقة مع دمشق
كشفت مصادر دبلوماسية وصحفية عن قائمة من المطالب قدمتها واشنطن للحكومة السورية الجديدة كشرط لتخفيف العقوبات وبناء الثقة. وقد سلمت ناتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام، وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني هذه القائمة خلال اجتماع في بروكسل في مارس 2025وتضمنت هذه المطالب ثماني نقاط أساسية هي:
- السماح للحكومة الأميركية بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب على الأراضي السورية ضد أي جهة تعتبرها واشنطن تهديدا للأمن القومي الأمريكي
- إصدار إعلان رسمي علني يحظر جميع المجموعات والأنشطة السياسية الفلسطينية على الأراضي السورية وترحيل أعضاء هذه المجموعات لتهدئة المخاوف الإسرائيلية.
- إصدار إعلان رسمي عن دعم التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.
- ضمان عدم تولي مقاتلين أجانب مناصب قيادية في الإدارة الحاكمة في سوريا.
- تدمير أي مخازن أسلحة كيميائية متبقية.
- تعيين منسق اتصال لدعم الجهود الأمريكية للعثور على أوستن تايس، الصحافي الأمريكي المفقود في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات.
وفقا للدبلوماسي السوري السابق والمقيم في واشنطن بسام بربندي، فإن رد دمشق على هذه المطالب جاء إيجابيا، رغم أن بعضها “يمس بشكل مباشر سيادة البلاد”، وذكر الباحث السياسي السوري رضوان زيادة أن “الإدارة الأميركية تدرس الرد حاليا، والتقييم الأولي للرد إيجابي”.
معضلة محاربة داعش: الشرط الأخطر
تعود العلاقة المتوترة بين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) وتنظيم داعش إلى عام 2013 عندما أعلن أبو بكر البغدادي دمج جبهة النصرة مع تنظيمه تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. لكن الجولاني رفض هذا الاندماج وأعلن ولاءه لتنظيم القاعدة وزعيمه أيمن الظواهري، مما أدى إلى انشقاق وصراع دموي بين الطرفين.
وفي يوليو 2014، أعلن الجولاني أن جبهة النصرة تخطط لإقامة إمارة إسلامية في مناطق سيطرتها في سوريا، وفي يونيو 2015 أكد أنه “لا يوجد حل بيننا وبينهم [داعش] في الوقت الحالي أو في المستقبل المنظور… وفي حالة ما لم يحصل هذا فإن الحل بيننا هو القتال”.
هذا التاريخ من العداء يجعل محاربة داعش تحديا وجوديا للشرع وليس مجرد تنفيذ لشرط أمريكي.
تهديدات داعش الحالية للشرع
وخلال الأيام الماضية أصدر تنظيم داعش فتاوى تحرض على قتل أحمد الشرع ومحاربة نظامه الجديد في سوريا، وأتباعه من قيادات تحالف الفصائل، واصفا إياهم بـ”المجاهدين المدجنين المرتدين” ونسخة ثانية من “طالبان” أفغانستان.
ونشر التنظيم مقطع فيديو يظهر تهديدات مباشرة للشرع، متهما إياه بأنه “مهووس بالسلطة والظهور” وبالتخلص من كوادر كانت على تواصل مع الاستخبارات الغربية.
كما يواجه الشرع مأزقا حقيقيا مع انتشار عناصر داعش بين غالبية الفصائل المتواجدة في سوريا، بما في ذلك داخل هيئة تحرير الشام نفسها. وتشير تقارير إلى أن التنظيم اخترق التحصينات الأمنية للحكومة الجديدة، مما يشير إلى وجود عناصر متعاطفة معه داخل المؤسسات السورية الناشئة.
كما أن دعوات داعش لعناصره المنضمين للفصائل المختلفة بالانشقاق تمثل تهديدا حقيقيا لتماسك القوات المسلحة السورية الجديدة.
الولايات المتحدة تضع خارطة طريق لسوريا ودمشق تطالب بفرصة جديدة
انسحاب أمريكي وتنامي خطاب داعش.. ماذا يُطبخ في سوريا؟
وفي تقرير أمريكي، أشار مسؤول كبير إلى أن واشنطن “تعتقد أن أجزاء كبيرة من هيئة تحرير الشام تحافظ على روابط قوية مع تنظيم داعش”، مما يزيد من تعقيد مهمة الشرع في تنفيذ الشرط الأمريكي بمحاربة التنظيم دون تعريض سلطته للخطر.
ملف المقاتلين الأجانب يعرقل مساعي سوريا لرفع العقوبات
كما يواجه الشرع تحديا معقدا في ملف المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في الحرب داخل سوريا، ويعتبر مصيرهم أحد أبرز العقبات أمام أي تقدم في مسار تخفيف العقوبات الغربية المفروضة على سوريا.
فبينما تسعى دمشق إلى تحسين علاقاتها الخارجية، اصطدمت بمطالب غربية تدعو إلى استبعاد المقاتلين الأجانب، الذين تم تعيين بعضهم في مناصب داخل الحكومة والجيش، كشرط أساسي لأي تخفيف إضافي للعقوبات.
وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن الرئيس الشرع يجد نفسه أمام “معضلة سياسية وأمنية”، إذ يخشى من أن يؤدي تهميش هؤلاء إلى تمرد داخلي أو عمليات انتقامية، خصوصا أن بعضهم يمتلك نفوذا داخل التشكيلات العسكرية والمناطق التي سيطروا عليها في السابق.
صفقة أمريكية مع أحمد الشرع تستهدف الفصائل الفلسطينية في سوريا
من الساحل السوري إلى نيويورك: الجالية العلوية تلاحق الشيباني بتهم الإرهاب
وفي مقابلة مع الصحيفة الأمريكية، ألمح الشرع إلى إمكانية منح الجنسية السورية لبعض المقاتلين الأجانب الذين عاشوا في سوريا لسنوات و”ثبتوا إلى جانب الثورة”، وفق تعبيره، في محاولة لإدماجهم ضمن البنية السياسية والاجتماعية للدولة.
لكن هذا الطرح أثار قلقا في عواصم غربية، تخشى من تحول سوريا إلى “ملاذ دائم للمتطرفين”، خاصة مع وجود تشكيلات مقاتلة ما زالت تنشط في الشمال السوري، تضم عناصر أجنبية من عشرات الجنسيات.
ووفقا لدراسة إحصائية صادرة عن مركز “فيريل” الألماني، فإن سوريا شهدت أكبر تجمع للمقاتلين الأجانب في التاريخ الحديث، إذ بلغ عدد الجنسيات المقاتلة ضد الجيش السوري بين 2011 و2015 ما يقارب 93 جنسية، بينما بلغ عددهم التراكمي نحو 360 ألف مقاتل.
وفي الوقت الحالي، يتركز وجود المقاتلين الأجانب بشكل رئيسي ضمن صفوف “هيئة تحرير الشام”، التي تقدر أعدادهم بنحو 2500 عنصر، إضافة إلى تشكيلات أخرى مثل “كتيبة المجاهدين الغرباء” التي تضم مقاتلين من الإيغور والطاجيك والأوزبك، و”كتائب أجناد القوقاز”، و”عصائب الإيغور الحمراء”، و”تنظيم حراس الدين”، الذي يضم أردنيين وأتراكا ومغاربة ومصريين وتونسيين.
وتثير تعيينات بعض هؤلاء المقاتلين في مناصب عسكرية حساسة تساؤلات حول توجهات الإدارة السورية الجديدة، لا سيما في ظل القلق الدولي من تأثير هذا الوجود على استقرار المنطقة وعلى جهود مكافحة الإرهاب.
نقل نساء علويات إلى تركيا: مخاوف متزايدة من تكرار سيناريو “سبي الإيزيديات” في سوريا
تفاصيل اغتيال القيادي بتحرير الشام أبو خالد العراقي في سلقين بإدلب
مخاطر الانشقاق في صفوف هيئة تحرير الشام
تصاعد خطاب التكفير والتحريض ضد الشرع يهدد بانشقاقات داخل هيئة تحرير الشام نفسها. ويعود هذا إلى جذور الهيئة التي تشكلت من اندماج عدة فصائل ذات توجهات متباينة.
فقد تأسست الهيئة في يناير 2017 من اندماج جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) وجبهة أنصار الدين وجيش السنة ولواء الحق وحركة نور الدين الزنكي.
هذا التنوع في مكونات الهيئة يجعلها عرضة للتفكك تحت ضغط الدعوات المتشددة، خاصة إذا ما تبنى الشرع السياسات الأمريكية في مكافحة الإرهاب بشكل صريح. وما يزيد من تعقيد الموقف هو اتهامات داعش للشرع بالتخلص من كوادر تنظيمية كانت على علاقة بالأجهزة الاستخباراتية الغربية، مثل ميسر علي الجبوري الملقب بـ”أبي ماريا القحطاني”.
مصري في الجيش السوري لـ ‘هيئة تحرير الشام’” من هو علاء محمد عبد الباقي؟
محمود أحمد المحمد قائداً عاماً للواء المدرعات الأول في الجيش السوري من هو أبو الدرداء” ؟
مخاطر الصراع بين الفصائل
في ظل هذه التحديات، يبدو أن “حرب الدقون” قد باتت وشيكة. وتتصاعد المخاوف من أن تبدأ معركة “كسر العظم” من القصر الجمهوري نفسه، مع دعوات الانشقاق التي يطلقها داعش وتوصيفه للشرع بـ”المرتد”.
ويزيد من حدة التوتر تصريحات لمسؤولين أمريكيين تشير إلى أن مكافحة الإرهاب وضمان عدم عودة داعش للظهور من جديد يعد من المصالح الأساسية للولايات المتحدة في سوريا.
مع إلغاء الولايات المتحدة للمكافأة المالية المخصصة لاعتقال الشرع والبالغة 10 ملايين دولار، يبدو أن واشنطن تتجه نحو التعامل مع هيئة تحرير الشام كشريك محتمل.
وقد أعلنت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، خلال زيارتها لدمشق عن هذه الخطوة بعد لقائها مع الشرع والتزام الأخير بضمان عدم تشكيل المنظمات الإرهابية في سوريا تهديدا للولايات المتحدة.
المصري عاصم راشد الهواري يتولى قيادة القوات الجوية السورية: من هو أبو القاسم بيت جن؟
من هو العميد عبد الرحمن الخطيب؟ أحمد الشرع يكلف أردني بقيادة الحرس الجمهوري
ويرى الدبلوماسي الأمريكي السابق هنري إنشر أن هذه خطوة إيجابية تعني استعداد واشنطن للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة. ولكنه يستبعد رفع العقوبات بشكل كامل عن سوريا قبل قدوم الإدارة الأمريكية المقبلة في 20 يناير 2025، ويتوقع أن رفع اسم هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب والعقوبات سيحتاج وقتا أطول.
خيارات الشرع: المواجهة أم المناورة؟
أمام الشرع خياران رئيسيان في التعامل مع أزمة داعش:
- خيار المواجهة المباشرة: تنفيذ المطالب الأمريكية بمحاربة داعش، مما قد يؤدي إلى حرب داخلية ومخاطر انشقاق في صفوفه، لكنه يضمن دعم واشنطن وحلفائها.
- خيار المناورة: التعامل بحذر مع المطالب الأمريكية مع تجنب المواجهة المباشرة مع داعش، وهو ما قد يخفف من حدة التوترات الداخلية، لكنه قد يعرض علاقته مع واشنطن للخطر.
ويبدو أن الشرع يتجه نحو خيار وسط، من خلال إظهار الالتزام بمحاربة الإرهاب لإرضاء واشنطن، مع اتخاذ خطوات حذرة لتجنب الصدام المباشر مع العناصر المتشددة داخل صفوفه.
الشرع بين مطرقة واشنطن وسندان داعش
تشكل الشروط الأمريكية لبناء الثقة تحديا مصيريا لسلطة أحمد الشرع في سوريا. ويبقى شرط محاربة داعش الأكثر حساسية، نظرا لتاريخ العداء بين الطرفين وتغلغل عناصر التنظيم في الفصائل المختلفة. يحاول الشرع السير على حبل مشدود بين إرضاء واشنطن لضمان الدعم الدولي ورفع العقوبات، وبين تجنب إثارة حرب داخلية مع المتشددين في صفوفه.
ومع دعوات داعش للانشقاق وتكفير الشرع، تلوح في الأفق بوادر صراع محتمل قد يبدأ من القصر الجمهوري نفسه. وتبقى قدرة الشرع على إدارة هذه المعادلة الصعبة هي الفيصل في تحديد مستقبل سلطته وربما مستقبل سوريا بأكملها.
