منذ أن عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، برزت قطر — الدولة الخليجية الصغيرة من حيث المساحة، والغنية بالغاز الطبيعي والثروة السيادية — كلاعب دبلوماسي رئيسي في ملفات الشرق الأوسط.
فبعد سنوات من التوتر وسوء الفهم خلال ولايته الأولى، تحولت الدوحة إلى أحد أقرب الحلفاء لترامب، وساهمت في تحقيق بعض من أبرز إنجازاته الخارجية، من وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس إلى صفقات السلام الإقليمية، وحتى التعاون العسكري والاستخباراتي في مناطق النزاع.
هذه العلاقة التي تجمع بين رجل الأعمال الذي أصبح رئيسًا، ودولة صغيرة تتقن فن البراغماتية السياسية، تجسد تحالفًا يقوم على المصالح المتبادلة، والصفقات، والقدرة على التحرك في مساحة رمادية بين الخصوم.
مشهد رمزي في قاعدة العديد
في أكتوبر 2025، توقفت الطائرة الرئاسية الأمريكية في قاعدة العديد الجوية بقطر، أثناء رحلة ترامب إلى آسيا.
ما كان حدثًا لوجستيًا بسيطًا تحوّل إلى إشارة دبلوماسية قوية، عندما ظهر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الوزراء الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، في استقبال ترامب شخصيًا على مدرج المطار.
بحسب مصادر مطلعة على المحادثات بين الجانبين، كان هذا اللقاء نتاج مشاورات دقيقة، عكست استعداد القيادة القطرية لتجاوز البروتوكولات الرسمية وإظهار تقدير خاص للرئيس الأمريكي، في خطوة وصفها مسؤول أمريكي بأنها “تأكيد واضح على عمق العلاقة الجديدة بين الطرفين”.
وقال مصدر قريب من الإدارة الأمريكية:
“الأمير تميم يعلم أن التعامل مع ترامب يعتمد على الثقة والاحترام المتبادل أكثر من أي اتفاق مكتوب. إنه يعرف تمامًا لغة المصالح التي يفهمها ترامب.”
من الحصار إلى الشراكة
لم تكن العلاقة بين قطر وترامب دائمًا بهذا الدفء.
في عام 2017، خلال ولايته الأولى، انحاز ترامب علنًا إلى السعودية والإمارات عندما فرضتا حصارًا على الدوحة بتهمة دعم “الإرهاب”.
لكن قطر تعاملت مع الأزمة بواقعية سياسية مذهلة. بدلًا من التصعيد، بدأت حملة دبلوماسية واقتصادية مكثفة داخل الولايات المتحدة لإعادة بناء صورتها والتقرب من دوائر النفوذ في إدارة ترامب.
استعانت الدوحة بشخصيات نافذة مقربة من الرئيس، مثل بام بوندي ومايكل كوهين، ووجهت استثمارات استراتيجية في قطاعات أمريكية حساسة.
وفي الوقت نفسه، واصلت قطر الترويج لنفسها كحليف عسكري لا غنى عنه عبر قاعدة العديد — أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.
قال محلل الشؤون الخليجية في “مجموعة أوراسيا” إيان بريمر:
“قطر تعلمت من تجربة الحصار درسًا مهمًا: في عالم ترامب، من لا يكون شريكًا في الصفقة يصبح هدفًا لها.”
صفقة الدوحة: المصالح قبل المبادئ
في ولايته الثانية، بدأ ترامب ينظر إلى قطر كشريك مثالي يجمع بين الثروة المالية والمرونة السياسية.
وخلال لقاء جمعه بالأمير تميم على متن الطائرة الرئاسية في الدوحة، وصف ترامب الأمير بأنه “أحد أعظم القادة في العالم”، وأضاف أن رئيس الوزراء القطري “صديقه مدى الحياة”.
ووفقًا لمصادر متعددة، فإن قطر لعبت دورًا محوريًا في تحقيق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وهو الإنجاز الذي اعتبره ترامب “الانتصار الأهم في السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقد الأخير”.
فقد صاغت الدوحة بالتعاون مع البيت الأبيض “خطة ترامب للسلام”، المكونة من 21 بندًا، وساعدت عبر وساطتها في تمهيد الطريق لاتفاق مؤقت بين الأطراف المتنازعة.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، آنا كيلي:
“كانت قطر جزءًا لا يتجزأ من نجاح الرئيس ترامب في إحلال السلام، وهي شريك موثوق يقدم رؤى عملية وتواصلًا مفتوحًا مع جميع الأطراف.”
نفوذ عابر للمنطقة
لم يتوقف الدور القطري عند حدود الشرق الأوسط.
فقد تحولت الدوحة إلى مركز وساطة عالمي يتعامل مع ملفات تمتد من القوقاز إلى إفريقيا.
ساعدت قطر في التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان، كما شاركت في تنسيق العمليات الأمريكية ضد الحوثيين في البحر الأحمر، وساهمت في تبادل المعلومات الاستخباراتية مع واشنطن وتل أبيب خلال التوتر الأخير مع إيران.
ورغم التحديات التي واجهتها علاقات قطر بواشنطن خلال عهد بايدن، حين جُمّدت وساطتها في إفريقيا لصالح المبادرة الفرنسية، فإن انتخاب ترامب أعاد تنشيط القنوات القطرية ورفع مكانتها إلى مستوى “الشريك الموثوق في إدارة الأزمات”.
انتقادات من الداخل الأمريكي
لم يمر التقارب بين ترامب وقطر دون اعتراضات داخلية.
فقد هاجم عدد من أبرز مؤيدي ترامب، مثل لورا لومر وستيف بانون، هذا التحالف، مشيرين إلى أن قطر ما تزال تحتفظ بعلاقات مع جماعات مثل حماس وطالبان.
لومر وصفت قرار البنتاغون السماح لقطر بإنشاء قاعدة في ولاية أيداهو بأنه “خيانة لمبدأ أمريكا أولاً”.
لكن مسؤولًا رفيعًا في البيت الأبيض رد قائلًا:
“الرئيس يعرف من يفيد مصالح أمريكا فعليًا. قطر لا تمثل تهديدًا، بل تقدم حلولًا حيث فشل الآخرون.”
سياسة الوساطة: هوية وطنية
في خطاب ألقاه الأمير تميم في مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، أوضح أن الوساطة ليست مجرد سياسة خارجية بل “ركيزة في الدستور القطري”.
وأضاف:
“نُعرّف أنفسنا اليوم كوسطاء عالميين، من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا وآسيا، لأننا نؤمن بأن الحلول تمر بالحوار لا بالحرب.”
هذه الرؤية جعلت من قطر وجهة مثالية لأي إدارة أمريكية تبحث عن قناة تواصل غير مباشرة مع خصومها، وهو ما استثمره ترامب بذكاء واضح.
أزمة الاعتذار الإسرائيلي: لحظة اختبار الثقة
في منتصف عام 2025، تعرضت العلاقة لاختبار خطير عندما نفذت إسرائيل هجومًا صاروخيًا على شخصيات من حماس داخل الدوحة أثناء محادثات وقف إطلاق النار.
طالبت قطر باعتذار رسمي وضمانات أمنية أمريكية لحماية سيادتها.
استجاب ترامب بسرعة، وطلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إجراء مكالمة مباشرة مع الأمير تميم لقراءة نص اعتذار صاغته الولايات المتحدة وقطر معًا.
بعد أيام، وقع ترامب أمرًا تنفيذيًا بتعهد الدفاع عن قطر في حال تعرضها لأي هجوم خارجي، وهو التزام شبهته الدوحة بـ”المادة الخامسة من ميثاق الناتو”.
وقال مسؤول قطري حينها:
“لقد فاجأنا الرئيس ترامب بكرم موقفه. لم نتوقع أن يذهب إلى هذا الحد.”
الدوحة وترامب: صفقة استراتيجية متبادلة
من الواضح أن العلاقة بين ترامب وقطر ليست مجرد تحالف سياسي، بل صفقة استراتيجية متبادلة.
ترامب يرى في الدوحة شريكًا ماليًا واستثماريًا يمكن الاعتماد عليه لتثبيت نفوذ أمريكا في المنطقة، فيما ترى قطر في ترامب زعيمًا براجماتيًا يمكن التفاهم معه على أساس المصالح لا الإيديولوجيا.
لقد تحولت قطر من دولة محاصرة إلى مركز دبلوماسي واقتصادي عالمي، وأثبتت أن الحجم لا يحدد النفوذ، وأن الذكاء السياسي يمكن أن يجعل من “الدولة الصغيرة” لاعبًا لا غنى عنه في النظام الدولي.
بين صفقة الطائرة الفاخرة، ووساطات وقف إطلاق النار، والضمانات الأمنية الأمريكية، أثبتت قطر أنها تتقن لعبة التوازن بين القوى العظمى.
وبينما يسعى ترامب لتسجيل اسمه كصانع سلام عالمي، تواصل الدوحة تعزيز مكانتها كـ”صانعة الصفقات” في الشرق الأوسط.
في نهاية المطاف، قد تكون قطر صغيرة جغرافيًا، لكنها اليوم دولة كبرى بمعايير النفوذ والدبلوماسية — والدليل الأوضح على أن السياسة في عصر ترامب تُبنى بالصفقات، لا بالشعارات.










