تقرير شامل عن حرب دارفور في السودان: من اندلاعها عام 2003، مرورًا بمجازر الجنجويد ضد المدنيين من عرقيات غير العربية، وصولًا إلى أحداث العنف الأخيرة وسيطرة قوات الدعم السريع، وتحليل للتاريخ السياسي والاجتماعي فى السودان والجرائم الدولية المرتكبة.
عاد الحديث عن دارفور في السودان بعد عشرين عامًا، على خلفية المجازر التي يتعرض لها المدنيون حاليًا. تُظهر الأحداث أن جرائم الحرب في الوقت الراهن تشبه إلى حد كبير ما حدث بين عامي 2003 و2006، حيث كانت ضحايا العنف من السكان غير العرب، وكان الفاعلون في معظمهم هم نفس الأطراف السابقة. اليوم، قوات الدعم السريع (RSF) هي امتداد مباشر لميليشيات الجنجويد التي نفذت التطهير العرقي قبل أكثر من عشرين عامًا.
السيطرة الأخيرة على الفاشر وتجدد العنف
في يوم الاثنين الماضي، سيطرت ميليشيات قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، آخر مدينة كبيرة في إقليم دارفور لم تكن تحت سيطرتهم. ومنذ ذلك الحين، توالت التقارير والأخبار ومقاطع الفيديو التي تُظهر أعمال عنف ومجازر بحق المدنيين وإعدامات جماعية. أصبح دارفور مركز العمليات الرئيسية لقوات الدعم السريع، التي تخوض منذ أكثر من عامين حربًا أهلية وحشية ضد الجيش السوداني، فيما تعتبر المنطقة الأشد تعرضًا للانتهاكات بحق السكان المدنيين.
دارفور: الجغرافيا والسكان
دارفور هي منطقة غربية في السودان، بمساحة تعادل تقريبًا مساحة إسبانيا، وأكبر من إيطاليا مرة ونصف. وفقًا للأمم المتحدة، يقدر عدد سكانها بـ 12 مليون شخص، رغم أن هذه مجرد تقديرات بسبب الهجرات الكبيرة الناتجة عن عشرين عامًا من الحروب.
السكان مسلمون بشكل رئيسي، وينتمون إلى العرب وأعراق محلية عديدة، من أبرزها الفور (أصل تسمية دارفور أي “أرض الفور”)، والمساليت، والزغاوة. العرقيات المختلفة لديها أنماط حياة مختلفة: العرب غالبًا رحل ويعتمدون على تربية المواشي، بينما المجتمعات الأخرى مستقرة وتعمل في الزراعة.

التهميش السياسي والاجتماعي
منذ استقلال السودان عام 1956، كانت مجتمعات دارفور، سواء العربية أو غير العربية، ممثلة بشكل ضعيف في الحكومة المركزية. الحكومات المتعاقبة، سواء العسكرية أو المدنية، سواء ذات التوجهات الشيوعية أو الإسلامية، تعاملت دائمًا مع دارفور كمحافظة بعيدة، مستغلة مواردها الزراعية والمعدنية، دون سياسات تطويرية حقيقية. كما أن المنطقة كانت تشهد منذ عقود توترات بين الأعراق المختلفة، والتي ازداد تكرارها بشكل ملحوظ ابتداءً من عام 2001.

اندلاع الحرب
اندلعت الحرب في عام 2003، عندما قامت بعض التشكيلات المتمردة بتنظيم نفسها تحت اسم الجيش السوداني للتحرير (SLA) وبدأت مهاجمة منشآت حكومية في شمال المنطقة، مثل القصور الحكومية والمطارات ومراكز الشرطة.
منذ عام 1989 كان الرئيس عمر البشير على رأس السودان، وهو ضابط سابق تولى السلطة بانقلاب عسكري، وكان يعلن دعمًا واضحًا للعرق العربي. وصف الهجمات بأنها “عنصرية” ضد العرب، وللمواجهة جند ميليشيات عربية من قبيلة البقارة، وهي قبيلة من رعاة المواشي متنقلين ونصف متنقلين.
الجنجويد: “شياطين على الخيل”
أطلق سكان دارفور على هذه الميليشيات اسم الجنجويد، أي “الشياطين على الخيل”، وكان المصطلح يُستخدم محليًا للإشارة إلى الخارجين عن القانون أو اللصوص.
بدأ الجنجويد بمهاجمة قرى الفور والمساليت والزغاوة، وقتل المدنيين، واستعملوا الاغتصاب كسلاح حرب وأداة للتطهير العرقي، واعتقلوا وعذبوا وابتزّوا الفارين، ونهبوا المدن والمراكز الصغيرة. بعض القرى تعرضت لهجمات متكررة، ثم تم تدميرها بالكامل، حيث أحرق الجنجويد المنازل والمحاصيل.
كانت هذه الميليشيات مدعومة من الحكومة المركزية، التي شنت أيضًا غارات جوية على المدنيين ومنعت وصول المنظمات الإنسانية الدولية، تاركة السكان بدون طعام أو أدوية أو احتياجات أساسية.
حصيلة الضحايا والأضرار
استمرت الحرب عمليًا ثلاث سنوات، مع محاولات اتفاقيات سلام أعقبها تجدد الهجمات والقسوة. وفقًا للأمم المتحدة، قتل الجنجويد والجيش حوالي 300 ألف شخص، بينما نزح 3 ملايين آخرون.
نازحون في طريقهم إلى مخيمات اللاجئين في تشاد عام 2004

الانتباه الدولي والتدخلات
ابتداءً من عام 2004، زاد اهتمام المجتمع الدولي بالمجازر في دارفور. وصف وزير الخارجية الأمريكي كولن باول ثم الرئيس جورج بوش الوضع بأنه “إبادة جماعية”، ووصفت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي الأعمال بأنها “جرائم ضد الإنسانية”.
في 2004 تم نشر قوات الاتحاد الأفريقي للحفاظ على السلام، ثم استبدلتها بعثة الأمم المتحدة في 2006. تم توقيع أول اتفاق سلام في 2006، لكن الاشتباكات استمرت على نطاق أقل، بينما تم التوصل إلى اتفاق نهائي في 2020. وفي عام 2021 اندلعت مواجهات جديدة.
عمر البشير في الفاشر عام 2009

المساءلة القانونية
في عام 2008، اتهم الرئيس السوداني البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وصدر بحقه مذكرة توقيف.
في عام 2013، وبعد بعض الاشتباكات في دارفور، وافق البشير على إنشاء قوات الدعم السريع (RSF)، وهي ميليشيات شبه عسكرية تُعد امتدادًا للجنجويد، بقيادة حمدان دقلو “حميدتي”، ضابط شاب صعوده السريع لم يُفسّر بالكامل.
في 2019، عُزل البشير بانقلاب قاده دقلو والجنرال عبد الفتاح البرهان، وهما نفس القائدين اللذين بدأا الحرب الأهلية عام 2023، حيث يقود البرهان الجيش النظامي. البشير لا يزال في السجن ولم يُسلم للمحكمة الجنائية الدولية.
في 6 أكتوبر 2025، صدرت أول إدانة من المحكمة الجنائية الدولية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور بحق علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف باسم علي كوشيب، أحد قادة الميليشيات.
بعد عشرين عامًا من الصراع، يظل دارفور مثالًا مأساويًا على استمرار العنف والجرائم ضد المدنيين في السودان. تاريخ المنطقة يبرهن على أن سياسات التهميش والإهمال، إضافة إلى دعم الحكومة للميليشيات المسلحة مثل الجنجويد وقوات الدعم السريع، أدت إلى دورة متواصلة من المجازر والمعاناة. رغم محاولات المجتمع الدولي للتدخل والمساءلة القانونية، تظل الحاجة ملحة لإيجاد حلول سياسية وأمنية دائمة، تكفل حماية المدنيين وتحقيق العدالة، قبل أن تتحول المنطقة إلى مأساة إنسانية لا تنتهي.










