يبدو جليا أن بيان الرباعية الصادر في سبتمبر الماضي، والذي أعلن بوضوح أنه لا مستقبل سياسي للجماعات العنيفة المرتبطة بالحركة الإسلامية، قد شكل لحظة حاسمة دفعت هذه التيارات إلى التمترس في خندق الرفض. فبدل أن تتعامل مع مبادرة الرباعية كفرصة لوقف نزيف الدم وتهيئة المناخ للسلام، والنقاش حول تجديد آليات ووسائل الوصول الى السلطة والاستعداد للمراجعة التاريخية وإصلاح الاخطأ، تحولت الامور إلى جدار صد وانتفاضة أمام أي هدنة إنسانية يمكن أن تمهد لتسوية شاملة تنهي الحرب. الدافع في ذلك ليس خافيا: الحفاظ على وجودها السياسي بأي ثمن، ولو على حساب السودانيين واستقرار البلاد.
التجربة السياسية للحركة الإسلامية تؤكد أن التفاوض لم يكن يوما مرفوضا في منهجها؛ فقد جلست إلى طاولات الحوار مرارا — من أبوجا إلى فرانكفورت، ونيفاشا، وأبشي، وأديس أبابا، والدوحة — ولم تعتبر تلك المفاوضات خروجا عن المبادئ او خيانة. الجديد الآن هو رفضهم القاطع لأي جهود سلام تراها تهدد مستقبلهم السياسي. وكما يقال: السبب المعلن ليس دائما هو السبب الحقيقي؛ فالموقف الرافض للهدنة في جوهره ليس موقفا ضد السلام، بل ضد أي عملية قد تنتهي بان لا ترى وجودها حاضرا في المشهد السياسي.
من ناحية اخرى لا يمكن كذلك تجاهل سجل الأخطاء المتبادلة؛ فالحركة الإسلامية خلال فترة حكمها مارست الاستبداد وأقصت خصومها، لكن ما تلا سقوطها لم يكن أفضل حالا. فخلال الفترة الانتقالية، مورست بحق الإسلاميين إجراءات تعسفية؛ ولكنهم عقب اندلاع الحرب عاد أغلبهم إلى جهاز الدولة ونشط اخرون فيها فقاموا بنفس الطريقة القديمة من إجراءات تعسفية، حرموا خصومهم السياسيين من وثائق السفر وفتحوا بلاغات كيدية فيهم، ومنعوا من الحقوق الأساسية بحجج وطرق لا تمد إلا لاستدعاء سلوك المستبدين. هذه الممارسات — أيا كان الفاعل — تعيد إنتاج ذات دائرة الانتقام التي عطلت بناء الدولة السودانية لعقود. فالوطن لا يبنى بالعزل، ولا العدالة تتحقق بالثأر.
اليوم، تبدو مقايضة الهدنة بالمستقبل السياسي للحركة الإسلامية حقيقة ماثلة. فالهدنة الإنسانية، التي يفترض أن تكون خطوة نحو إنهاء الحرب ومعالجة الأوضاع الكارثية للمدنيين، أصبحت رهينة لمعادلات النفوذ والحسابات الحزبية. وهذا أمر مرفوض تماما، لأن السلام الإنساني لا ينبغي أن يكون صفقة سياسية ولا جسر عبور لفصيل يبحث عن ضمانات وجوده، او لا يجب أن تكون في محل المكايدة السياسية والاصطفاف في الناحية المعاكسة للخصوم وكفى.
إن بناء وطن جديد يتطلب فصل الإنساني عن السياسي، والاعتراف بأن حقوق المواطنة والحريات لا تخضع للمساومة أو المقايضة. فالهدنة ليست هدية لأحد، بل حق لكل السودانيين الذين أنهكتهم الحرب وأتعبهم التنازع على السلطة.










