د. أشرف دوابة
شهد الأسبوع الماضي وفاة الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وكان لوفاته صدمة في أوساط العالم الإسلامي، باعتباره عالما موسوعيا حمل همّ أمته، ورسّخ لمفهوم الوسطية، وجمع بين الأصالة
والمعاصرة، وتحرر من قيود التقليد والتبعية. وكان لاجتهاته الفقهية السبق في عالمنا المعاصر، ولمآثره الاقتصادية إبرازا ملموسا لمكانة الاقتصاد الإسلامي.
فقد عرف العلامة القرضاوي طريقه للاقتصاد مبكرا، والنظرة إليه نظرة شاملة متكاملة باعتباره جزءا لا يتجزأ من منهج الإسلام الشامل باعتبار الإسلام نظاما شاملا يتناول مظاهر الحياة جميعا. فالعلامة القرضاوي وإن كان خريجا في كلية أصول الدين، إلا أنه وعى تماما قيمة الاقتصاد كعمود من أعمدة الدين. وفي هذا يقول: عنيت بالاقتصاد؛ لأنه جزء من نظامنا الإسلامي، ومن شريعتنا الإسلامية، وحيث إن أحد أركان الإسلام الخمسة يتعلق بالاقتصاد، وهو: الزكاة، وإحدى “الموبقات السبع” يتعلق بالاقتصاد، وهي: الربا، الذي أذن القرآن مرتكبيه بحرب من الله ورسوله. وأضاف: إن اهتمامي بالاقتصاد الإسلامي جزء من اهتمامي بالشريعة الإسلامية، والدعوة إلى تحكيمها في جميع مجالات الحياة، وإحلال أحكامها محل القوانين الوضعية والأنظمة المستوردة.
عرف العلامة القرضاوي طريقه للاقتصاد مبكرا، والنظرة إليه نظرة شاملة متكاملة باعتباره جزءا لا يتجزأ من منهج الإسلام الشامل باعتبار الإسلام نظاما شاملا يتناول مظاهر الحياة جميعا
وقد حوّل العلامة القرضاوي هذا التوجه إلى واقع من خلال تسجيله رسالته للدكتوراة في كلية أصول الدين عن “الزكاة وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية”، التي تحولت حتى وقتنا هذا مرجعا رئيسيا في الزكاة للعلماء والباحثين وعموم المسلمين، ومن بركاتها -كما يقول العلامة القرضاوي- أنها فتحت له نافذة على الدراسات المالية والاقتصادية التي كان -بمقتضى تخصصه- في عزلة عنها، فأطل من هذه النافذة على النظام الاقتصادي في الإسلام، فاتضحت له معالمه، ولاحت أمام عينه مبادئه ودعائمه، كما أعانه هذا البحث على إصدار كتابه “مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام”.
لقد كان من أهم ما برز فيه العلامة القرضاوي الكتابة والتأليف، وقد اتخذت كتاباته فيما يتعلق بالجانب التنظيري في الاقتصاد الإسلامي صورتين أساسيتين؛ الأولى: كتابات خاصة بالاقتصاد الإسلامي، ممثلة في كتبه: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، فقه الزكاة، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، فوائد البنوك هي الربا الحرام، دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي. والثانية: كتابات عامة يدخل الاقتصاد الإسلامي في طياتها، وتحتويها العشرات من كتبه.
وقد تعددت الموضوعات الاقتصادية التي تناولها العلامة القرضاوي في كتاباته لتشمل الجوانب المتعددة للاقتصاد الإسلامي، ومن أهم هذه الموضوعات: القواعد الشرعية الاقتصادية، والزكاة، والربا، والإنتاج، والاستهلاك، والتوزيع، والسوق الإسلامية، والمصارف الإسلامية، وأساليب التمويل والاستثمار، والفقر، والعمل الخيري، والبيئة الاقتصادية، والمشكلة الاقتصادية، والمقاطعة الاقتصادية، وأهل الذمة في الاقتصاد الإسلامي.
وإلى جانب هذا الكتابات التنظيرية ساهم العلامة القرضاوي في العديد من المؤتمرات الاقتصادية، وقد شارك فيها بالبحوث المعدة، أو بالمناقشات الإيجابية المخلص. وقد لقيت كتاباته التنظيرية قبولا في أرض الواقع، فقد ساهمت في تهيئة الأجواء وخلق البيئة المناسبة لقيام اقتصاد إسلامي مؤسسي.
كان للعلامة القرضاوي جهد ملموس في إحياء فقه المعاملات المهجور، وعرضه وتطبيقه بطريقة ميسرة، والربط بينه وبين الاقتصاد الإسلامي بصورة تكاملية وعملية
وإلى جانب هذا الدور فقد كان العلامة القرضاوي يسهم بنفسه في بناء لبِنات الاقتصاد الإسلامي في أرض الواقع، ويشد أزره، ويرشد مسيرته، ويسدد خطواته، سواء من حيث توليه عضوية مجالس إدارة بنوك ومؤسسات مالية إسلامية، أو عضوية هيئات رقابية شرعية، أو المساهمة في تلك البنوك. كما يرجع إليه الفضل في تأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت في عام 1984م، عندما نادى خلال مؤتمر إسلامي كان منعقدا هناك بضرورة جمع مليار دولار يتم استثماره وإنفاق عائده لمواجهة ثالوث الفقر والجهل والمرض، ورفع شعاره الخالد “ادفع دولارا تنقذ مسلما”.
لقد كان للعلامة القرضاوي جهد ملموس في إحياء فقه المعاملات المهجور، وعرضه وتطبيقه بطريقة ميسرة، والربط بينه وبين الاقتصاد الإسلامي بصورة تكاملية وعملية.. هذا الاقتصاد الذي تبنى فكرته منذ بداية دعوته، ونظر إليه نظرة الفقيه العليم بأحكامه، البصير بواقعه ومستقبله، باعتباره منهج حياة.
رحم الله الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي وجزاه خيرا عن عمر مديد قدم فيه للأمة الإسلامية في ربوع المعمورة علما نافعا وأعمالا ذات أثر ظاهر.. فاللهم تقبله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
( المصدر : عربي 21 )