بعد عامين وثلاثة أشهر من احتجازهم، عاقبت المحكمة الجزائية بالرياض عشرة من أبناء «الأسرة النوبية في الرياض»، أمس، بالسجن لمدد تراوحت بين عشر سنوات إلى 18 سنة.
واجه النوبيون العشرة اتهامات من بينها «إنشاء جمعية غير مرخصة، وتنظيم تجمع دون ترخيص»، على خلفية عقد الأسرة النوبية في الرياض ندوة بمناسبة حرب السادس من أكتوبر، في 25 أكتوبر 2019، احتوت على «بانرات» لصور أبرز من شاركوا في الحرب من المصريين النوبيين، وكان أعلاهم رتبة المشير محمد حسين طنطاوي.
لكن هذا لم يكن منطقيًا. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحتفل بها النوبيون بحرب أكتوبر أو بغيرها من المناسبات. حاولت عائلات المحكومين اللجوء إلى وساطات مختلفة لمعرفة أسباب المحاكمة أو محاولة الوصول إلى أي تفاهم أو حلول. آخر هذه المحاولات كانت اللجوء إلى لجنة العفو التي شكلها الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، لكن دون نجاح.
لا أحد من عائلات المحكومين يفهم المنطق وراء كل ما حدث. هذه المجموعة تنتمي إلى الأسرة النوبية، كما اعتاد النوبيون تنظيم أنفسهم في كل مكان. لكن هذه الأسرة تتمتع بعلاقة وثيقة بالدولة المصرية، وصلت في بعض الأحيان إلى الاستعانة بهم سياسيًا، خاصة في أثناء الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين في 2013. ولم يقم أي منهم بإبداء رأي سياسي قد يثير جدلًا أو خلافًا، سواء فيما يخص مصر أو السعودية.
ولهذا، لم يصدق أحد أن هذه المأساة تحدث فعلًا. عشرة من النوبيين المصريين يعيشون في السعودية منذ عقود، أصبحوا فجأة أمام حكم يمنحهم عقودًا أخرى في السجون السعودية.
يعمل عدد كبير من أبناء النوبة في السعودية ضمن ثلاثة ملايين مصري، بينهم مليون و700 ألفًا مقيمين بشكل نظامي، بحسب أحمد فاروق، سفير مصر الحالي لدى المملكة. تأتي مصر في المركز الثاني بعد الهند تأثيرًا على الاقتصاد السعودي.
اعتاد أبناء القرى المصرية تأسيس جمعيات باسم قراهم في أي بلد يهاجرون إليه لمساعدة بلدياتهم الوافدين، واستمرار ممارسة العادات الاجتماعية للقرى. وكباقي القرى المصرية، فعل الأمر نفسه أبناء قرى النوبة الذين هاجروا إلى المملكة في السبعينيات مع استقرارها على عرش إنتاج النفط في الخليج.
زاد من دافع الهجرة لدى النوبيين عن غيرهم، غرق قراهم الذي بدأ مع بناء خزان أسوان عام 1902، وتعليته الأولى والثانية عامي 1912 و1933، وانتهاءً بالتخطيط لإقامة السد العالي عام 1964.
ولأن النوبيين في السعودية ينتمون إلى 50 قرية، ولهم مواطنون من أغلب تلك القرى يعيشون في مدينة الرياض، أسسوا جمعيات باسم القرى مثل «جمعية أبناء أبو سمبل»، أولى الجمعيات التي تأسست في الرياض، وسُجلت في السفارة. يقول مصدر قريب من العائلات النوبية التي تعيش في الرياض: «لو تواجد عشرة أو خمسة عشرة من أبناء إحدى القرى النوبية في مكان يبعد عن أسوان 10 كيلو بيأسسوا جمعية لهم، على سبيل المثال هناك 24 جمعية في حي عابدين وحده بمدينة القاهرة، كذلك الأمر في الإسكندرية والسويس، حتى أن هناك جمعيات نوبية في نيويورك وواشنطن ولندن».
تندرج الجمعيات النوبية في الرياض تحت كيان أكبر أسماه النوبيون «الأسرة النوبية في الرياض»، والذي تأسس مع بداية التسعينيات، ومُسجل في القنصلية العامة بالرياض منذ 2004، وتنتخب الجميعات رئيسًا له، وفقًا لصفحة الأسرة النوبية على فيسبوك التي كان يديرها محمد فتح الله شاطر، المحكوم عليه بالسجن 18 عامًا.
شملت «الأسرة النوبية في الرياض» جميع أبناء النوبة القادمين من القرى الواقعة في مركزي نصر والنوبة وأسوان بمحافظة أسوان بمصر، بحسب توضيح رئيس الأسرة النوبية السابق، فرج الله أحمد يوسف، والذي حصل على حكم 16 عامًا، على هامش مشاركة «الأسرة النوبية» في احتفالية اليوم العالمي للطفل بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، في نوفمبر 2015.
هذا التنظيم الهرمي أكسب «الأسرة النوبية» صلات مباشرة بالسفارة المصرية في السعودية باعتبارهم أكبر كيان منظم في الجالية المصرية. وفقًا لمصادر نوبية تعمل في المملكة، كان سفراء مصر لدى الرياض يطلبون من «الأسرة النوبية» تنظيم حفلات في المناسبات الدبلوماسية أو عند احتياجه حشدًا لاستقبال أعضاء من الحكومة أو رجال أعمال.
وتمتع يوسف، والذي يقيم في الرياض منذ 30 عامًا وشغل مناصب هامة هناك، من بينها مستشار لهيئة الآثار والسياحة السعودية، بتأثير ملحوظ في أوساط المصريين في السعودية حتى أن الحكومة استندت عليه لتعزيز شرعيتها بعد الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين في 3 يوليو 2013. بحسب مصادر قريبة من عائلته، تواصل ضابط الاتصال في السفارة المصرية مع فرج في صيف 2013 ليطلب منه حضور اجتماع عاجل في مصر. حُجزت له تذاكر الطيران وجاء مصر لحضور اجتماع في مبنى وزارة الخارجية حضره ضباطًا من المخابرات، ثم عاد إلى الرياض في نفس اليوم. كان الاجتماع يتلخص في طلب تأييد «الأسرة النوبية» الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين ودعم الحكومة الجديدة.
قبلها بعام، نافس الإخوان على مقاعد مجلس إدارة «صندوق الجالية المصرية في السعودية» الذي أنشئ عام 1988 في القنصلية المصرية في الرياض بعد موافقة وزارة الخارجية المصرية. بحسب مصادر قريبة من عائلة يوسف، قايضْ الإخوان «الأسرة النوبية في الرياض» تعيين يوسف نائبًا لرئيس الصندوق، مقابل تصويت النوبيين لقائمتهم. فاز التحالف بالفعل بانتخابات الصندوق، وعُين يوسف نائبًا لرئيس الصندوق، وكان باقي القائمة أعضاء في جماعة الإخوان. لكن بعد يوليو 2013، وزيارة يوسف لمبنى وزارة الخارجية في مصر، عاد واستقال من منصب نائب رئيس الصندوق، وأوقفت القنصلية توقيع القنصل العام على أي شيكات أو معاملات تتعلق بالصندوق، وأعلن قنصل مصر الأسبق بالرياض، السفير أشرف شيحة، أنه فك ارتباط القنصلية بالصندوق وتحويل حسابه في البنك إلى حساب مؤسسة خاصة، لتصبح «الأسرة النوبية في الرياض» دون غطاء شرعي، ليواجه مجلس إدارة الصندوق المسألة القانونية أمام السلطات السعودية التي تحظر وتمنع تشكيل أي جمعيات أو روابط. وفيما بعد، حُل المجلس وغادر أعضاء الجمعية من الجماعة مع آلاف منهم كانوا يعملون ويعيشون في السعودية بشكل منتظم إلى تركيا وقطر والسودان. لكن يوسف لم يهرب، كونه معروفًا بعدم انتمائه للجماعة ويتمتع برئاسة الأسرة النوبية.
آخر دعوة رسمية موثقة من سفير مصر السابق بالسعودية، ناصر حمدي، كانت احتفالية أقامتها السفارة المصرية في الرياض، في ذكرى ثورة 23 يوليو 2019. وتلقى الدعوة رسميًا، فرج الله أحمد يوسف، الرئيس السابق للأسرة، ورئيسها الحالي، عادل الفقير، الذي قضت المحكمة بسجنه 14 عامًا.
لكن، تلك العلاقات الجيدة بين السفارة والأسرة النوبية لم تشفع لتدخل سياسي من السفارة بشأن احتجازهم.
بعد القبض عليهم في أكتوبر 2019، أصدرت القنصلية المصرية بالرياض بيانًا طالبت فيه المواطنين المصريين في السعودية احترام القوانين والأنظمة بالمملكة التي تحظر إنشاء جمعيات أو كيانات لجاليات الدول المقيمة بأراضيها أو إقامة أية أنشطة لهم. يؤكد مصدر قريب من عائلات المحكومين أن تدخل القنصلية كان ضعيفًا، تمثل في إرسال موظف يعمل في الشؤون القانونية بالسفارة، لكنه غير مسجل كمحامٍ في السعودية، لذلك اقتصر حضوره كملاحظ.
بداية الأزمة كانت عندما أعلنت «الأسرة النوبية في الرياض» عن إقامة احتفال بذكرى انتصار 6 أكتوبر في مقر «الاتحاد العام الرياضي للمصريين بالخارج» في 2019. كان برنامج احتفال النوبيين ندوة لمناقشة بحثين، الأول «النوبة نواة الجيش المصري»، والثاني «العلم المصري». ولظروف لم تُذكر، أعلن المنظمون من أعضاء «الأسرة النوبية في الرياض» قبل ثلاثة أيام من انعقاد الندوة عن تغيير المكان إلى مقر «جمعية دهميت النوبية بالرياض»، واعتذروا عن عدم سماحهم لحضور النساء والأطفال، بعكس ما كان مقررًا في الحفل السابق. وقبل ساعات من إقامة الندوة بمقر الجمعية، ألقت الشرطة السعودية القبض على عادل سيد إبراهيم فقير، رئيس الأسرة النوبية في الرياض، وفرج الله أحمد يوسف، رئيس الأسرة السابق، ومحمد فتح الله جمعة شاطر، أدمن صفحة الأسرة النوبية على فيسبوك، وسيد هاشم شاطر، رئيس جمعية قرية دهميت النوبية بالرياض، والذي حكمت المحكمة فيما بعد عليه بالسجن 14 عامًا.
بعد أسابيع من التحقيق معهم، أخلى سبيل ثلاثة منهم مع قرارات بمنع عشرة من السفر، وجاءت السفارة كضامن لهم بعدم مغادرتهم السعودية وتقديمهم للمحاكمة بنفسها إذا تم استدعاؤهم مرة أخرى. وتبقى عادل سيد فقير، الرئيس الحالي للأسرة النوبية، محبوسًا.
تقول مصادر قريبة من الأسرة إنهم سُئلوا خلال التحقيقات -ضمن عدد آخر من الأسئلة- عن السبب في عدم وضع صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي على لافتة الندوة، وعن القضية النوبية، ومدى رغبة النوبيين في الاستقلال.
كان وائل إسحاق، مصمم لافتة الندوة، والمحكوم عليه بـ12 عامًا، جمع في البوستر صورًا لمصريين نوبيين كانوا من أصحاب الأدوار الهامة في حرب أكتوبر، أعلاهم رتبة عسكرية كان المشير محمد حسين طنطاوي، بالإضافة إلى الصول أحمد إدريس، الذي ولد في قرية توماس أيضًا، وينسب إليه فكرة اعتماد الجيش المصري في التواصل بين وحداته على اللغة النوبية، كشفرة لا يعرفها الجيش الإسرائيلي وقتها.
لم يقم أي من أفراد المجموعة بالإفصاح عما حدث على صفحاتهم بعد الإفراج عنهم، سواء عن سبب اعتقالهم أو عما أسفرت عنه تحقيقات القضية، رغم نشاطهم قبل وبعد خروجهم. وطلب فرج الله يوسف من ابنه، عمرو، الاستمرار في التكتم على الموضوع وعدم نشر أي شيء يخص القضية بحجة استمرار حبس عادل الفقير. يفسر عمرو ذلك بأنهم «فضلوا أثناء حبسهم وبعدها عدم النشر أو الكتابة، زاد على ذلك أيضًا نصيحة السفارة المصرية بعدم الكتابة عنهم والهدوء لحين تصرفها».
يتذكر عمرو ما قاله والده إلى الآن: «عمك عادل لسه جوه وخايفين عليه». يضيف عمرو أنهم كانوا متيقنين من أن الموضوع سوء تفاهم بينهم وبين السلطات السعودية، لأنهم يعملون تحت مظلة جمعيات تابعة للدبلوماسيات ولها نظام خاص بها يختلف عن الجمعيات الأهلية في السعودية. خرج عادل بعد شهرين، ديسمبر 2019، وبقي العشرة في السعودية بعد أن عادوا لأشغالهم.
بعد سبعة أشهر من إخلاء سبيلهم، عاودت الشرطة القبض عليهم في يوليو 2020، حتى حكمت المحكمة عليهم بالسجن مدد تتراوح بين 10-18 عامًا.
يقول مصدر قريب من العائلات: «فشلنا في توكيل محامي، أغلب المحامين السعوديين خافوا لأنها قضية سياسية، ما عدا في الجلسة قبل الأخيرة، وكّل الكفيل السعودي الخاص بأحد المقبوض عليهم محامي، وكان هناك محامي آخر منتدب من المحكمة». وحضر معظم الأهالي الجلسة الخاصة بتلاوة الاتهامات، والتي تلخصت في تأسيس جمعية وعقد ندوة دون ترخيص، والتعاطف مع جمعية الإخوان. وانتهت أول جلسات المحاكمة في السعودية للتأجيل إلى جلسة 28 سبتمبر، بعد طلب الادعاء التأجيل من أجل تقديم أدلة جديدة ضدهم، وذلك بعد عامين من الاحتجاز. وفي جلسة الأمس، أصدرت المحكمة أحكامها، ليصبح من حق المحكومين الاستئناف ضد الحكم الصادر أمام محكمة الاستئناف الجزائية
( مدى مصر )