د. نور الدين علوي
الجميع يشكو ما يلقاه من الانقلاب، فلا يسمع المرء إلا شكوى ونواحا على المستقبل، لكن عند السؤال لماذا لا تخرج على الانقلاب فإن الصمت يكون سيد الموقف. أما البعض فيصرح علنا وبلا خجل: المهم ألا يحكم حزب النهضة، مع سلسلة من التحليلات الجوفاء عن الخراب الذي أحدثه الحزب في تونس كأنه حكم وحده أو كأنه حكم فعلا.
لم نتردد في الإشارة إلى أدوارهم وإلى أسمائهم، ونحن نرى أثر حرب الاستئصال على المناخ السياسي والاقتصادي في بلدنا ومنذ الثورة، بل مما قبلها. وقد أكدنا على أن هذا الدور التخريبي لا يخدم أحدا سوى القوى الخارجية المتربصة بالتجربة الديمقراطية التونسية، بل رأيناها تخدم منع العرب عامة من التطور نحو الديمقراطية والتمتع بالحريات.
الاستئصاليون هم المسؤولون عما يصيب تونس هذه الأيام، وهم من يدفعون البلد إلى حافة الاحتراب الأهلي، وقد يقفون على ربوة الفرجة قريبا (فأغلبهم يحمل جواز سفر فرنسيا) ليروا عموم الناس تتقاتل على الخبز، فيكررون في وسائلهم الإعلامية “المهم النهضة لا” ولو سالت الدماء أنهارا.
ليس المنقلب في تقديرنا وبعد طول تأمل إلا قشرة خارجية لا علم لها بما يجري ولا قدرة لها على النفع أو اجتناب الضرر، لقد تم الاستحواذ عليه ثم التسلل عبر انقلابه السخيف لمواصلة الحرب الدينية في تونس. نعم إنها حرب دينية، فالاستئصاليون لهم دين ولهم رب غير رب التونسيين، إنه رب لا يقبل التعايش بل يحبذ القتل على السلام، وهم يطبقون تعاليمه فيجعلون الاستئصال السياسي يجري بروح حرب دينية وإن كان كثير منهم يعلن إلحاده.
إن ما يصيب تونس -وسنكرر هذا ونلح عليه- هو ثمرة حرب استئصالية منعت تجربة الديمقراطية من التطور، وها هي تخرب مناخ الحريات المتبقي وتدفع الناس إلى حافة البؤس المادي.
يمكن تخيل الكثير من الحلول ويمكن وضع خطط نظرية، بل يمكن بناء دولة على الورق لا يظلم فيها أحد، لكن كل هذه الخطط ستسقط في الحضيض ما دام البلد يعيش حربا أهلية موجهة ضد شق كبير من مواطنيه. فلم نصل مرحلة الانقلاب ولم يرسخ المنقلب انقلابه إلا بمساعدة مباشرة من التيار الاستئصالي، لذلك فإن أي حل سياسي يتجاهل هذا الانقسام ولا يواجهه بوجه مكشوف لن يبني حلا قابلا للبقاء في تونس. لقد تم ردم الاختلافات تحت مسميات توافقية، لكن الردم لم يزد الاستئصاليين إلا قوة ومنعة، فقد بنوا سياساتهم على أن خصمهم خائف ومرعوب وأنه يمكن تكبيله برعبه الداخلي، وتم ذلك بنجاح.
وعندما نقرأ الآن موقف النقابة وهي العصا الضاربة للتيار الاستئصالي تدخل تحت الأرض خوفا من الانقلاب؛ نكتشف مقدار الرعب الذي كانت تبثه في الساحة لتمنع أي سلم اجتماعي وأي توافقات سياسية يستفيد منها الإسلاميون أو يجدون مكانا بين الناس ولو على هامش الدولة.
نعم لا يمكن التعايش مع الاستئصال، وسيجد كل ديمقراطي نفسه ضحية لهذا التيار وليس فقط الإسلاميين. هل تتسع جبهة الديمقراطيين في تونس ليواجه القطاع الأوسع من النخب هؤلاء الاستئصاليين؟ هذا هو المخرج السياسي الوحيد من الحرب الأهلية الجاثمة على المشهد وإن لم ينطلق الرصاص. ومن لم ينظر إلى المستقبل من زاوية الحق في الحياة والمشاركة على قاعدة الديمقراطية سيكون في صف الاستئصال وإن لم يشعر. متى يكون ذلك؟ الطريق لا تزال طويلة، والجوع قد يسبق التونسيين إلى استعادة مشوار بناء الديمقراطية.
كان أهل البادية في تونس إذا شح الغيث يدعون “اللهم خرابها ولا إجدابها”، ومعناه السيول الجارفة المخربة أفضل من الجدب والقحط. ونظن أن سيلا من الفقراء يدخلون على آخر المستفيدين من الانقلاب قد يكون بمثابة المخلص الأكبر من الحالة السياسية التي يتحكم فيها الاستئصاليون، بشكل مباشر أو من وراء حجاب.
لأن فقراء البلد يعيشون فعلا خارج هذه المعركة ولا يرون حدودها كما لا يرون ضرورتها، فهم منشغلون أولا بتدبر قوتهم وهم يعيشون الآن على حافة فقر كبير وجوع قد يخرجهم من تحفظهم. لا نراهم يعطون نفس التوصيف للمعركة أو الحرب الأهلية القائمة بين النخب، لذلك نرجح أن خروجهم وقد صار احتمالا كبيرا سيتجه ضد الجميع بما يخرب المشهد كله ويفتح على مشهد جديد.
سيكون هذا حلا مكلفا، ولكن من سيدفع الكلفة الأكبر إذا كان الفقراء لا يملكون ما يخسرون؟ سيكون الثمن راحة هؤلاء الماكثين في شرايين الحكم يمتصون دمه ويمنعون غيرهم من مشاركتهم بمسميات من قبيل محاربة الرجعية الدينية.
من هذه الزاوية فإن الشدائد الحالية من قبل انقطاع الوقود في المحطات أو انقطاع الزيت في المطابخ؛ هي شدائد تذكر فتشكر لأنها تسرع سيل العرم المنتظر.
هل الخراب أمنية تكتب؟ لا، إنه احتمال يمكن توقعه فليست الدول كائنات مقدسة لا يجوز تهديمها، إنها حالات من الإدارة يمكن أن تفشل فيغيرها الناس بما في أيديهم من الوسائل والفقر وسيلة جيدة لتغيير الدول. هل تونس الحالية قابلة للاستمرار؟ أم تتأهل للتغيير؟ ثورة الفقراء التي لم تقض على الاستئصاليين فشلت بفعل الاستئصاليين، فإن عادوا للشارع ثانية فسيكون تغييرا حقيقيا. الآن نتمتع بمشاهد الطبقة الوسطى الاستئصالية في العمق تنتظر الساعات الطويلة أمام محطات الوقود.. لقد نسيت السير على أقدامها مثل الفقراء..
( عربي 21 )