صبحي حديدي
تحتضن أستانا عاصمة كازخستان ثلاث فعاليات ذات طابع دولي، لا تغيب عنها أبعاد خاصة آسيوية، أو غير أوروبية على وجه التخصيص؛ وتصبّ في جهود روسية وصينية أساساً، بتضامن من دول أخرى في
المحيط الجيو – سياسي أو على تخومه: القمة السادسة لما يُعرف باسم «مؤتمر التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا « CICA، ومجلس رؤساء «كومنولث الدول المستقلة « CIS، و«قمّة روسيا – آسيا الوسطى» الأولى. وفي أواسط أيلول (سبتمبر) الماضي، كانت سمرقند عاصمة أوزبكستان قد احتضنت الاجتماع الـ22 لزعماء دول «منظمة شنغهاي للتعاون»، بحضور الرئيسن الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، وقادة كازخستان وقرغيزستان وطاجكستان والهند وباكستان والبلد المضيف أوزبكستان؛ فضلاً عن مراقبين مثل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، والإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، وآخرين.
هذه، وسواها على مستويات أخرى اقتصادية وتجارية وتنموية وأمنية، تبدأ من افتراض مفاده أنّ العالم ليس أحادي القطب من جهة أولى، وأنه من باب أولى ليس رهينة الاستقطاب الغربي في صياغاته المختلفة التي تبدأ من الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقد لا تنتهي عند مجموعة الـ7 أو حتى مجموعة الـ20 حيث لا تقتصر هذه الأخيرة على قادة الدول بل تضمّ أيضاً محافظي المصارف المركزية في غالبية الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. الافتراض، استطراداً، يفتح سؤال الإمكانية ضمن تشعبات عديدة، جيو ـ سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية، وأخرى ذات صلة بتعدد انتسابات الدول الأعضاء الساعية إلى تعددية الأقطاب؛ كأن تكون الهند صديقة الولايات المتحدة وروسيا في آن معاً، وأن تفرّق بينها وبين الصين والباكستان خلافات حدودية بعضها شديد الاستعصاء؛ أو أن تكون تركيا عضواً في الحلف الأطلسي، طامحة على قدم المساوة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ومنظومة شنغهاي…
وعند تأسيسها في سنة 2001، كانت «منظمة شنغهاي للتعاون» قد ابتدأت لائحة عضويتها من روسيا والصين وكازخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، منتقلة بذلك من تشكيلة أولى أقدم تأسست سنة 1996 واتخذت تسمية «خمسة شنغهاي»؛ كما طوّرت أغراضها المباشرة، في التنسيق والتعاون الإقليمي، وشخّصت «الشرور الثلاثة» في التطرّف والنزعة الانفصالية والإرهاب، ثمّ توجّب تلقائياً أن تنأى أكثر فأكثر عن المحاور والكتل الغربية على أصعدة سياسية واقتصادية وعقائدية. التوجه المركزي نحو تعددية الأقطاب استوجب، أيضاً، انفتاحاً أوسع على توطيد التجارة المشتركة والاستثمار في ميادين الطاقة، بل بلغ الأمر درجة تطوير نظام مصرفي للتحويلات المالية في كلّ من روسيا (SPFS) والصين (CIPS) موازٍ للنظام الدولي/ الغربي عموماً المعروف (SWIFT). وكان لافتاً، يحمل الكثير من المغزى، أنّ البيان الختامي للمنظمة في سمرقند، مؤخراً، شدّد أكثر من ذي قبل على هدف ناظم طبع فلسفة تأسيس مجموعة شنغهاي، فأكدت الدول الأعضاء «على التزامها بإنشاء نظام عالمي أكثر تمثيلاً وديمقراطية وعدالة وتعددية أقطاب».
غير خافٍ، بالطبع، أنّ غالبية غير قليلة من دول منظمة شنغهاي لا تخرق مبادئ النظام الذي تزعم الدعوة إليه، وتنتهك أبسط اشتراطاته، فحسب؛ بل إنّ بعضها، الأكبر والأبرز مثل روسيا والصين، يعتمد الاستبداد في أنماط شتى وأنساق متغايرة، ولا يتردد في اجتياح الجوار أو احتلال المناطق وضمّها وإلحاقها، أو يمارس عمليات التطهير العرقي والثقافي. وهذه في رأس المعضلات التي أعاقت، وتعيق اليوم أيضاً، إطلاق منظومات ومجموعات وتحالفات تكفل تطوير تعددية قطبية حيوية وخلاقة ومعافاة؛ بل إنّ تفشّي الركون إلى العوائق، وما تؤدي إليه من تفاقم العواقب الناجمة عن تلك المعضلات، إنما يمنح القطبية الغربية، الأمريكية على وجه الخصوص، أفضلية واضحة في التسابق على إخضاع أطراف العالم، ويزوّدها بهوامش مناورة أوسع نطاقاً من حيث تضييق الخناق على أيّ جهود ثالثة مستقلة عن القطبين الغربي/ الأمريكي مقابل الروسي/ الصيني على سبيل المثال.
من سمرقند إلى كييف، وعلى قدم المساواة ربما: من البيت الأبيض إلى الكرملين مروراً بقرارات «أوبك +»، ثمة ما يصطرع في ميادين تشكيل الأقطاب أو تفكيكها أو إعادة تشكيلها؛ وثمة، على نحو متزامن، عواقب تتفاقم وتتضاعف وتتفجر
ضبط آسيا الوسطى والتحكم في ثرواتها وأنظمتها وامتيازاتها الجيو ـ سياسية وإدخالها في شبكات محاور أو ولاء أو حتى هيمنة مباشرة هي، غنيّ عن القول، سلسلة الأغراض الأعرض خلف المسعى المشترك الروسي/ الصيني؛ ولا غرابة في ذلك بالطبع، إذْ أنّ المنطقة تحفل بمخاطر دول غير مستقرة، وصعود دائم متعاظم للجماعات الجهادية الإسلامية المتشددة، وانتشار الجريمة المنظمة على اختلاف أنواعها وأهوالها، وتجارة المخدرات بوصفها «صناعة ثقيلة» ومصدراً للعملة الصعبة. لا يُستثنى من هذا المشهد، من زوايا الإبصار الروسية ـ الصينية هنا أيضاً، أنّ المحاور الغربية والأمريكية لم تعتمد ستراتيجية عمل جدّية شاملة إزاء آسيا الوسطى إلا في سنة 2007 عملياً، حين اتضحت أكثر فأكثر الأهمية الجيو ـ اقتصادية لثروات المنطقة، وحين تأكد أنّ نزوعات الكرملين في التوسع وبسط النفوذ أخذت تستثمر في بلدان آسيا الوسطى، مستعيدة ما يمكن من بقايا نفوذ عائد إلى حقبة الاتحاد السوفييتي.
وإذا صحّ الافتراض بأنّ الأقطاب آخذة في التعدد بالفعل، هنا وهناك على مستوى آسيا الوسطى أوّلاً، وكذلك لدى دول غير قليلة الشأن مثل الهند وإيران وتركيا ترغب في الانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون»؛ فإنّ الآخذ في التفاقم، على الضفة الموازية، هو مقدار العواقب الكارثية الناجمة عن بؤس التغيير ومحدودية التأثير لدى الغالبية الساحقة من مراكز العالم الأخرى التي تعاني من التخلف والفاقة والحاجة والديون والكوارث والمجاعات والحروب الأهلية. ولم يكن بعيداً، وقد يتكرر في أية حقبة متغيرة مقبلة، ذلك الزمن الذي شهد ائتلاف الأقطاب الكبرى ضدّ «بؤساء» العالم حيثما اقتضت قوانين السوق والاستثمار والإخضاع والسيطرة؛ وقادة الغرب الذين أدخلوا الصين إلى نادي الكبار في مجلس الأمن الدولي كانوا يدركون، كما هو إدراكهم اليوم، أنّ الفيتو الذي يمكن أن يستخدمه الوافد الجديد سوف ينقلب عليهم، هم أنفسهم، مراراً وتكراراً.
ومن جانب آخر، يخصّ القطب الغربي الأمريكي، ما يزال على قيد الحياة، أسوة بتنظيراته وتشخيصاته، الفيلسوف السياسي البريطاني جون غراي (اليميني عموماً، على سبيل الإيضاح المفيد)، الذي نعى يوتوبيات الليبرالية المعاصرة في كتابه «الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة». والرجل اعتبر أنّ الديمقراطية واقتصاد السوق في حال تنافس، وليستا البتة في حال شراكة؛ وتجارب اقتصاد السوق القديمة والحديثة برهنت ــ خلال أوقات التأزم خصوصاً ــ على سطوة الدولة أكثر من سطوة السوق، وعلى خضوع اليوتوبيا للسياسة الواقعية (الـ Realpoitik في عبارة أوضح)، التي تفرضها المصالح والأجندات السرّية، وليس الاستثمار والتنافس الحرّ وقوانين الأسواق. هذا، بالطبع، لم يكن رأي القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين (أو لاحقاً: ساعة سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي، فكيف بضمّ القرم واجتياح أوكرانيا!) هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية: اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة، الآتية على هيئة خاتم البشر كما توهمه فرنسيس فوكوياما، واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها تماماً من الأزمات والهزّات والتشوّهات.
ومن سمرقند إلى كييف، وعلى قدم المساواة ربما: من البيت الأبيض إلى الكرملين مروراً بقرارات «أوبك +»، ثمة ما يصطرع في ميادين تشكيل الأقطاب أو تفكيكها أو إعادة تشكيلها؛ وثمة، على نحو متزامن، عواقب تتفاقم وتتضاعف وتتفجر، في مستويات ندرة الطاقة واشتعال الأسعار في العوالم المصنّعة المتقدمة ذاتها، فكيف بعوالم كانت تسمى «ثالثة» ذات يوم، ثمّ صارت «نامية» بعدئذ، وهي اليوم تتسمى بأيّ وكلّ ما يجسّد بؤس التاريخ.
( القدس العربي )