يحيى الكبيسي
بعد أكثر من سنة من الانتخابات المبكرة التي جرت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، فُكت عقدة رئيس الجمهورية في اللحظة الأخيرة، وهي العقدة التي أوجدها إصرار الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، على مرشحيهما لمنصب رئيس الجمهورية، حيث اتفق الحزب الديمقراطي مع تحالف بعض أطراف “إدارة الدولة” على سحب مرشحه في مقابل دعم ترشيح الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد، مع أن الأخير هو قيادي أصلي في الاتحاد الوطني، وسبق له أن كان وزيرا مزمنا لوزارة الموارد المائية مرشحا عن الاتحاد في الحكومة المؤقتة التي شكلها إياد علاوي في العام 2004، ثم في الحكومة الانتقالية التي شكلها إبراهيم الجعفري عام 2005، ثم في الحكومة الأولى لنوري المالكي عام 2006، ولكنه هذه المرة ترشح كمستقل ولم يكن المرشح الرسمي للحزب.
لكن حل هذه العقدة كان له ثمنه الأخلاقي هذه المرة أيضا؛ فالاتحاد الوطني الكردستاني كان حليفا للإطار التنسيقي خلال السنة الماضية، بل إن مرشحه الدكتور برهم صالح رئيس الجمهورية، هو الذي تقدم بطلب تفسير المادة 70/ أولا من الدستور إلى المحكمة الاتحادية، وهو الطلب الذي أتاح للإطار التنسيقي الحصول على تفسير من المحكمة الاتحادية بأن يكون نصابُ انتخاب رئيس الجمهورية الثلثين، وهو ما سمح للإطار التنسيقي بضمان الثلث المعطل الذي أعاق مشروع تحالف التيار الصدري بتشكيل حكومته مع حلفائه في “إنقاذ الوطن”، ثم أدى عمليا إلى استقالة نواب التيار الصدر من البرلمان، لكن بعض أطراف الإطار التنسيقي “تخلوا” عن حليفهم السابق ومرشحه في سبيل تمرير مرشحهم لمنصب رئيس مجلس الوزراء!
وهذا السيناريو كان تكرارا لسيناريو عام 2018، فقد كان ثمة اتفاق بين تحالف البناء مع الحزب الديمقراطي الكردستاني على دعم مرشحهم فؤاد حسين لمنصب رئيس الجمهورية، لكن “أطرافا” في تحالف البناء، تحديدا دولة القانون والعصائب وتحالف الهويات السني، انقلبوا على هذا الاتفاق وصوتوا لمرشح الاتحاد الوطني برهم صالح حينها!
المفارقة هنا أن تحالف “إدارة الدولة” الذي أعلن عنه يوم 26 أيلول/ سبتمبر الماضي، كان يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وهذا يعني عمليا أن الحزبين وقّعا على تحالف دون أن يناقشوا موضوع رئاسة الجمهورية!
هذا وحده ما يفسر التغريدة التي كتبها بافل الطالباني، الأمين العام للاتحاد الوطني، قبل يوم واحد من جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، والتي بدا فيها أنه يعوّل ليس على الالتزامات المتفق عليها، أو الوثيقة الموقع عليها كما يفترض، بل على التزام “المؤمنين” من الحلفاء المفترضين في الإطار التنسيقي! وعندما “يتعلق” رئيس حزب يصنف نفسه بأنه وسط اليسار وديمقراطي اشتراكي، على الإيمان والمؤمنين فللقارئ أن يتصور طبيعة العمل السياسي في العراق!
في الجولة الأولى التي يفترض أن يفوز فيها من يحصل على ثلثي الأصوات (220 صوتا)، تمكن المرشح عبد اللطيف رشيد من الحصول على 156 صوتا، في مقابل 99 صوتا لبرهم صالح، وهو ما استدعى جولة تصويت ثانية حصل فيها عبد اللطيف على 162 صوتا، مقابل 99 لبرهم صالح. وهذه النتيجة تكشف أولا عن طبيعة الانقسام داخل تحالف “إدارة الدولة” نفسه! وتؤكد اعتباطية “وثيقة التحالف” التي يفترض أن تحدد طبيعة التحالف، وطبيعة الالتزامات المتبادلة بين المتحالفين! وهو ما يؤكد ما قلناه في مقالة الأسبوع الماضي من أن التحالفات السياسية في العراق هي تحالفات براغماتية تتعلق بالمصلحة المباشرة التي “يفترضها” من يوقع، من خلال اتفاقات شفهية دون أي التزام واضح ومحدد، أو وثائق ضامنة، وأنها تحالفات لا تقاليد ولا أعراف لها! وهي تكشف أيضا أن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لا تعني بالنسبة لتحالف “إدارة الدولة” سوى خطوة تفضي إلى تكليف رئيس مجلس الوزراء، وبالتالي إلى الوصول إلى موارد مالية ضخمة تحققها الوفرة المالية التي حدثت بعد ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي أيضا تسريع لعملية الاستثمار في المال العام عبر تمرير قانون موازنة اتحادية يتم “تنظيمها” لهذا الغرض!
السؤال الأهم هنا هو ما موقف التيار الصدري من كل ما يجري، وما تبعات هذا “الصمت” على تمرير وزارة يهيمن عليها الإطار، بل يهيمن عليها صقور الإطار من دعاة “شد البغي حتى آخر سن” مع التيار الصدري؟
لا سيما أن إحاطة الممثل الخاص للأمين العام في العراق في مجلس الأمن يوم 4 تشرين الثاني/ أكتوبر، والبيانات التي أصدرها سفراء الدول الغربية في العراق (سفراء الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا) قد أوضحت، بما لا يقبل الشك، أنهم مع الإسراع بتشكيل الحكومة، وعليه ستحظى حكومة الإطار التنسيقي بشرعية دولية تزيد من محدودية خيارات التيار الصدري!
لن يكون، في الواقع، أمام التيار الصدري سوى خيارين؛ الأول أن يقبل بمفاوضات غير مباشرة مع رئيس مجلس الوزراء المكلف، تتيح له أن يحتفظ بمراكز القوى التابعة له في السلطة التنفيذية، وربما الحصول على وزارات عبر ترشيح شخصيات قريبة من الصدريين، وليسوا مرتبطين عضويا به، كما حصل في وزارة عادل عبد المهدي عام 2018، وبالتالي يقلل من قدرة صقور الإطار من تنفيذ أجندتهم، كما يعطي لنفسه فرصة التأثير في موضوعين حاسمين هما تغيير أو تعديل قانون انتخابات مجلس النواب، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة، في ظل الهيمنة المطلقة للإطار على مجلس النواب!
الخيار الثاني هو الاستمرار في سياسة رفض أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع “الكاذبين والمخادعين الفاسدين” كما كتب وزير الصدر قبل يوم واحد من جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي استخدام الشارع لتقويض الحكومة الإطارية، مع ما قد يترتب، على ذلك، من عنف محتمل، وهو خيار يحيل على إعادة إنتاج سيناريو عام 2019 مع حكومة عادل عبد المهدي!
وكلا الخيارين يؤكد أن التيار الصدري يتجرع نتائج تورطه بقرارات ارتجالية غير مدروسة وسيضطر للتكيف مع تبعاتها طويلا، وربما من بين هذه التبعات العودة مرة أخرى إلى المظلة الإيرانية التي أثبتت أنها لا تزال الفاعل المتفرد فيما يسمى جزافا ب “السياسة العراقية”.
( القدس العربي )