ديفيد هيرست
من جنوبي تلال الخليل، حيث يتعرض المزارعون إلى هجمات المستوطنين، إلى مخيم جنين، حيث تواجه الجماعات المسلحة المداهمات الليلية، تتشكل موجة جديدة من المقاومة داخل الضفة الغربية.
ينتهي الطريق حيث توجد قرية التواني، وخلفها مباشرة يمر طريق المستوطنين الذي يبدأ في القدس وينتهي في تلال الخليل الجنوبية.
وأمامها تقع قرية مسافر يطا، التي تبلغ مساحتها ثلاثين كيلومتراً مربعاً تقريباً، والتي أعلنتها إسرائيل منطقة رماية عسكرية في ثمانينيات القرن الماضي.
يخوض سكان مسافر يطا، الذين يبلغ تعدادهم حوالي 2500 نسمة، معارك يومية مع المستوطنين اليهود والجنود الإسرائيليين.
في نفس اليوم الذي وصلت فيه إلى قرية التواني، وقف أشرف محمود عمور، الذي يبلغ من العمر أربعين سنة، يتأمل بهدوء كومة من كتل المعادن. كانت تلك بعض بقايا منزله، الذي حولته إلى ركام قبل بضع ساعات جرافة إسرائيلية فلم تبق منه ولم تذر. إلا أن الذي أدهشه أن الجنود الإسرائيليين تركوا مظلة على يسار المنزل المهدم وحظيرة دجاج على يمينه، رغم أنهما كلتاهما صدرت بحقهما أوامر هدم.
قال أشرف عمور: “سوف أخبرك أين سننام الليلة – مع الدجاج والأغنام.”
ومضى، وهو الأب لخمسة من الأطفال، يقول: “كل ما يريدونه هو حملنا على المغادرة. ولذلك فهم يهدمون البيوت، ويمنعوننا من الوصول إلى الحقول، ويرهبوننا طوال الوقت بنشر الجنود والمستوطنين من حولنا، ويجتاحون بيوتنا، ويقومون باعتقالنا. ونحن نعرف أن ما يريدونه من ذلك هو دفعنا نحو الخروج. ذلك هو التحدي، ونحن نقبل به.”
وأضاف: “يحاولون تصويرنا للعالم على أننا إرهابيون. ومن هو الإرهابيون؟ نحن نحاول البقاء في ديارنا، وهم الذين يمارسون الإرهاب ضدنا. ولسوف أبقى هنا حتى لو اضطررت إلى النوم تحت صخرة.”
فقط على مسافة بضعة أمتار إلى الوراء على الطريق الترابي ترتفع لوحتان. تحمل اللوحة الأولى إعلاناً مكتوب فيه “الدعم الإنساني للفلسطينيين الذين يواجهون خطر الترحيل القسري إلى الضفة الغربية”، وإلى جانب تلك العبارة توجد شعارات إحدى عشرة وكالة مساعدات إنسانية حكومية من داخل الاتحاد الأوروبي.
لا توجد قيمة كبيرة لهذا التعبير عن الدعم الدولي حين يتعلق الأمر بردع المستوطنين، ففوق نفس اللوحة ترتفع صورة هارن أبو عرام الذي يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً.
يرقد هارون أبو عرام اليوم مشلولاً في المستشفى بعد أن حاول الدفاع عن أرضه.
أما حافظ الحوراني فكان محظوظاً إذ خرج من المعركة بذراعين مكسورين فقط.
بينما كان الحوراني يعمل في أرضه، تعرض لاعتداء من قبل خمسة مستوطنين مقنعين ومسلحين بأنابيب معدنية، يرافقهم جندي خارج الخدمة يشهر بندقية ويطلق منها النار في الهواء. فما كان من الحوراني إلا أن دافع عن نفسه بفأس كانت في يده.
قال ابنه سامي: “كانوا خمسة ضد واحد، ضد رجل واحد عمره 52 سنة. عندما وصلت إليه، كان والدي ينزف من يده اليمني ويمسك باليسرى. هرع إليه من خلفي عدد آخر من القرويين، واندفع إلى المكان المزيد من المستوطنين والمزيد من رجال الشرطة.”
قال الشرطي إنهم سيعتقلون الرجل الجريح.
يقول سامي عن ذلك: “في تلك اللحظة بدأت تنتابنا مشاعر الغضب. وقف المستوطنون أمام سيارة الإسعاف يعترضون سبيلها. وضعنا والدي داخل سيارة الإسعاف، فراح المستوطنون يطعنون إطارات سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر حتى لا تتمكن من التحرك.”
ويضيف: “صار الجيش يتعامل معنا بقسوة بالغة وداهمنا، ثم طردنا من الموقع وظل يطاردنا. ثم نقلوا والدي إلى سيارة إسعاف عسكرية.”
وبذلك بدأت عشر أيام من الاعتقال ظل فيها الحوراني، ضحية اعتداء المستوطنين، حبيساً لديهم.
ثم نقل إلى سجن عوفر، وظل موقوفاً بتهمة التسبب في أضرار بدنية جسيمة للمستوطن الذي هاجمه، وكانت محكمة عسكرية على وشك أن تحكم عليه بالسجن اثني عشر عاماً، لولا أن قضية المدعي العام انهارت بأعجوبة.
وذلك أن مقطع فيديو يصور الحدث من أوله إلى آخره قدم للمحكمة، وانتقد القاضي تأجيل الشرطة استجواب المستوطنين لأكثر من أسبوع.
وقالت محامية الحوراني، واسمها ريهام نصر، إن ما فعلته الشرطة كانت الغاية منه التمكن من تقديم ما لديها من أدلة أمام المحكمة، وقالت: “تم الطعن بالدليل وأحبط المخطط الذي أعد لحافظ الحوراني بمجرد أن وصل إلى الشرطة، وغدا متاحاً لدى الجمهور، مقطع الفيديو الذي وثق اعتداء المستوطنين المسلحين والمقنعين عليه.”
وأضافت: “كانت الغاية من اعتقاله لمدة عشرة أيام هي إخفاء الحقيقة والحفاظ على الرواية الكاذبة التي اختلقها من وجهوا له الاتهام. وهذا هو السبب الذي من أجله امتنعت الشرطة عن التحقيق مع المهاجمين، مع إنذار، لمدة تسعة أيام، وبذلك تم إفساد التحقيق الذي كانت المسؤولية عنه مناطة بهم.”
إلا أن القضاء العسكري أبعد ما يكون عن النزاهة، فعندما أطلقوا سراح الحوراني أمروه بدفع كفالة بمبلغ عشرة آلاف شيكل (ما يعادل 2800 دولار) والبقاء بعيداً عن أرضه لمدة ثلاثين يوماً، إلى حين القيام بتحقيقات أخرى ذات علاقة بالحادثة. أما المستوطنون الذين هاجموه والشرطي خارج الخدمة الذي أطلق ست رشقات من الرصاص في الهواء، فلم ينلهم سوء.
سامي واحد من أبناء جيل جديد من المزارعين والنشطاء الذين حزموا أمرهم على مقاومة الدولة الإسرائيلية بكل أشكالها – المستوطنون، الجنود، رجال الشرطة، والمحاكم.
أنشأ سامي مجموعة تسمى شباب الصمود، وكلمة الصموت يسمعها المرء كثيراً هنا في التلال الجنوبية لمنطقة الخليل.
وعن ذلك يقول سامي: “كنا نعيش في كهف عندما أخرجنا من قريتنا. وكنا قد رتبنا الكهف وأقمنا الجدران وأوصلنا إليه خدمات المياه من قريتنا. لقد أجبرنا المحتل على أن ندفع ثمناً باهظاً، فلقد كسرت عظامي. عنف المستوطنين في أعلى مستوياته.”
هذا جيل مختلف. إنه جيل يتمتع بثقة بالنفس، ولديه عزيمة وشكيمة، وهو موصول بالإنترنيت، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة.
يقول سامي: “تتوقع إسرائيل أن يموت الكبار ويتوقف الصغار، ولكن العكس تماماً هو الذي يحدث.”
ويضيف: “لم نتلق أي أوامر بالبدء بالنضال. ليس لدينا قادة، نحن لا ننتمي لأحد من الفضائل. بل نحن نبدأ النضال بأنفسنا.”
ويبدي سامي شعوراً بالتفاؤل حين يقول: “أي شخص في مثل وضعنا قد يساوره تفكير بالمغادرة، ولكننا نستمر في البقاء ههنا، ونستمر في الابتسام، ونستمر في إثبات أننا نعيش، وإثبات أننا لا نستسلم. هذا هو الأمر الذي يتميز به شعبنا، أن نثبت أننا شعب مدهش.”
أما جمال جمعة، الناشط السياسي الفلسطيني المخضرم فهو أقل تفاؤلاً، إذ يقول: “لقد حول الإسرائيليون الضفة الغربية، حرفياً، إلى شبكة من المحميات التي يعيش فيها السكان الأصليون. إنهم يرسمون الجغرافيا والديموغرافيا في الضفة الغربية لضمان الاحتفاظ بالهيمنة والسيطرة فيها إلى الأبد.”
يُحكم المستوطنون الآن قبضتهم على أراضي الضفة الغربية. كان المستوطنون قبل التوقيع على اتفاقيات أوسلو يضطرون إلى تجاوز الخط الأخضر باتجاه إسرائيل إذا ما أرادوا الذهاب إلى العمل هناك، أما الآن فهناك تسعة عشر منطقة صناعية، وثمة المزيد مما هو قيد الإنشاء، ناهيك عن المساحات الزراعية المتاحة لهم.
تحت أسماء جذابة مثل بوابة الصحراء ومزرعة الكرز يرزعون كل شيء من العنب إلى الماشية.
أما بالنسبة للمزارعين من أهل البلاد الأصليين، فقد غدت الحياة هنا غاية في الصعوبة. يكاد يكون استخدام الطرق الترابية مستحيلاً بسبب الدوريات العسكرية الإسرائيلية.
يقول جمعة: “لا مفر من العودة إلى السكن في الكهوف وإلى امتطاء الحمير.”
يعتبر هاني المصري أحد الصحفيين الفلسطينيين الرائدين ومن كبار المعلقين السياسيين.
كان المصري، الذي يعمل مديراً عاماً لمسارات، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسة والدراسات الاستراتيجية، يعتبر نفسه ذات يوم واحداً من أبناء فتح وعلى علاقة وثيقة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس.
لم يعد الأمر كذلك. يقول المصري: “في آخر مرة رآني فيها انفجر غاضباً في وجهي حتى قبل أن أنطق ببنت شفة.”
وسبب ذلك السخط على هاني المصري واضح. فقد غدا هاني المصري واحداً من أشد ناقدي محمود عباس عليه، وإن كان من أكثرهم اطلاعاً.
يقول المصري: “منذ وقت طويل ورام الله خالية من أي قيادة. في البداية تفاخر أبو مازن بأن إسرائيل ستعطيه أكثر مما أعطت ياسر عرفات، لأنه (أي عباس) معتدل وضد العنف. ولكن في الواقع، كان إخفاقه أشد من إخفاق عرفات.”
ويضيف: “كان رده على كل إخفاق الرغبة في المزيد من التفاوض، ولكن مشكلته تكمن في أن إسرائيل غير معنية بالتفاوض. وبدون تفاوض تنهار شرعيته، ليس فقط لأنه لا يوجد لديه برنامج وطني، ولكن لأن جميع مصادر شرعيته قد نضبت.”
مر ما يقرب من ثلاثين عاماً على توقيع اتفاقيات أوسلو، وها هو الرئيس البالغ من العمر سبعة وثمانين عاماً يربض على كومة من الحطام الذي آل إليه الكيان الفلسطيني الشبيه بالدولة.
يقول المصري: “لا يوجد فتح، ولا يوجد منظمة تحرير، ولا يوجد انتخابات، ولا يوجد سلطة، ولا يوجد مجتمع مدني، ولا يوجد إعلام مستقل.”
كما لا يدهشه أن يختار محمود عباس حسين الشيخ خليفة له. وكان حسين الشيخ قد هبط بالمظلة في شهر أيار/مايو ليحتل منصب أمين عام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
يكشف هاني المصري عن دافع عباس من اختيار حسين الشيخ خليفة له، فيقول: “سئل لماذا اختار حسين الشيخ فأجاب عباس: لأنه ذكي. طلبت من اللجنة المركزية الاختيار فلم يتفقوا، فاخترت الشخص الذكي من بينهم.”
ويضيف المصري: “قيل له رداً على ذلك: ولكن حسين الشيخ لا شعبية له. فقال محمود عباس: ولا أنا لدي شعبية.”
يتفق هاني المصري مع هذا الاعتراف الصريح. فبحسب استطلاعات للرأي أجريت على مدى عدة سنوات، كان ما بين ستين إلى ثمانين بالمائة ممن استطلعت آراؤهم باستمرار يريدون من محمود عباس أن يستقيل.
لم يكن محمود عباس مخطئاً تماماً فيما يتعلق باللجنة المركزية، وذلك أن العناصر الوازنة داخل فتح – ناصر القدوة (في المنفى)، وجبريل الرجوب، ومحمود العالول، ومحمد دحلان (في المنفى) – يخوضون معاركهم الخاصة بهم.
أما حركة حماس، التي تعرضت قيادتها في الضفة الغربية للتدمير بفعل الاعتقالات الليلية المتكررة، فترفض المشاركة في معركة الخلافة على قيادة السلطة، وكذلك كان قرار الفصائل الفلسطينية الأخرى، إذ يعتبرون الأمر شأناً فتحاوياً داخلياً.
يقول هاني المصري: “نصحتهم بأن يعملوا معاً، ولكنهم لا يفعلون ذلك. أبو مازن حاذق في شيء واحد، وهو أنه يعرف كيف يبث الشقاق فيما بينهم. لقد قال لأحد أعضاء اللجنة المركزية: أنت ستكون خليفتي من بعدي. وكل منهم يظن أنه الشخص المخول بذلك. هناك قول مأثور باللغة العربية، وهو: إذا كنت لا تملك حصاناً، فعليك أن تسرج حماراً.”
ما إذا كان وصف الحمار ينطبق على حسين الشيخ أم لا، فهذا ما ستكشف عنه الأيام، ولكن حسين الشيخ يعتقد أنه حصل على موقعه في الشمس عن جدارة، وهو الذي قضى ذاته فترة في الاعتقال لدى إسرائيل. إلا أن بعض الناس لا يقتنع بذلك.
من خلال تحمله لمسؤولية تنسيق العلاقة ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، اكتسب حسين الشيخ لقب “المتحدث باسم الاحتلال”. وهناك كلمة أخرى هي “التعاون”، والتي تستخدم لوصف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الإسرائيلية.
ثمة اتفاق غير مكتوب بينه وبين مسؤول قوات أمن السلطة الفلسطينية ماجد فرج، وهو المسؤول الآخر الوحيد الذي من المحتمل أن يكون مقبولاً من قبل إسرائيل ومقبولاً كذلك في واشنطن.
ولكن رغم كل ما يتمتع به من نفوذ كرئيس لقوات الأمن الوقائي في السلطة الفلسطينية لم يفلح ماجد فرج في الفوز بمقعد في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
في استطلاع للرأي نظمه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر يونيو / حزيران، كانت شعبية حسين الشيخ لا تتجاوز ثلاثة بالمائة – مع نسبة خطأ محتملة تتراوح بين زائد وناقص ثلاثة بالمائة.
يقول هاني المصري: “يحتاجان إلى بعضهما البعض. فأحدهما قناة اتصال مع إسرائيل والآخر قناة اتصال مع الولايات المتحدة. وإسرائيل ليست مستعدة بعد لوضع جميع بيضها في سلة واحدة.”
ومع ذلك، يحرص حسين الشيخ على أن يكون محل اهتمام واشنطن، ولذلك فهو يكثر الحديث عن احتمال تشظي السلطة الفلسطينية وإمكانية وقوع صدامات بين فصائل مسلحة متنافسة داخل حركة فتح، وهدفه من ذلك هو إثبات الحاجة الماسة لاستمرار السلطة الفلسطينية.
في مقابلة مع صحيفة ذي نيويورك تايمز نشرتها في شهر يوليو / تموز، قال حسين الشيخ: “لو أنني قررت حل السلطة الفلسطينية، فما هو البديل؟”
وأضاف يقول: “البديل هو العنف والفوضى وسفك الدماء. أعلم يقيناً ما هي عواقب مثل ذلك القرار. وأعلم أن الفلسطينيين هم من سيدفع الثمن.”
ولكن فيما لو ماتت أوسلو واحتضرت السلطة الفلسطينية، فمن المؤكد أن تكون تلك أيضاً نهاية الممارسة التي ما فتئت حتى الآن تقضي بانتخاب فقط مرشحين وظيفتهم الأساسية هو تسهيل الاحتلال الإسرائيلي وضمان استمراره.
وهذا ما يراه أيضاً مصطفى البرغوتي، زعيم ومؤسس المبادرة الوطنية الفلسطينية، والرجل الذي حصل على أعلى نسبة أصوات بعد محمود عباس في انتخابات عام 2005.
يقول البرغوتي: “إنها لحظة بالغة الخطورة، والذين يعتقدون أن بإمكانهم فرض أشخاص معينين على الشعب الفلسطيني عليهم أن يتوخوا الحذر الشديد، لأن ما تبقى من شرعية واحترام سوف يتبخر إذا لم تكن لدينا عملية ديمقراطية حسب الأصول ولم يتحقق الإجماع بين الفلسطينيين.”
ثلاث أزمات تسبب الشلل للسلطة الفلسطينية. أما الأولى فهي الإخفاق في تنفيذ برنامج بناء الدولة، وأما الثانية فهي عدم القدرة على تقديم استراتيجية بديلة، وأما الثالثة فهي التسبب في الانقسام الداخلي وقتل الانتخابات.
يقول البرغوثي: “لقد قتلوا ما كان متاحاً لدينا من عملية ديمقراطية بسيطة جداً من خلال إلغاء الانتخابات. ولما فعلوا ذلك، فلقد ألغوا عملية المشاركة، وألغوا حق الشعب في اختيار قادته، وسدوا الطريق تماماً في وجه الجيل الجديد. كيف يمكن للشباب في فلسطين أن يتمكنوا ويصبح لهم نفوذ في السياسة؟ كيف؟”
قبل يوم من لقائنا مع هاني المصري، اندلعت ألسنة النيران في نابلس، حيث انفجرت صدامات مسلحة بين المتظاهرين – وكثيرون منهم من حركة فتح – وبين قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على إثر اعتقال قائد كبير في حركة حماس اسمه مصعب اشتيه، وهو رجل مطلوب من قبل إسرائيل.
وفي تبادل إطلاق النار قتل رجل فلسطيني اسمه فراس يعيش يبلغ من العمر ثلاثة وخمسين عاماً وأصيب آخر بجراح وحالته حرجة.
استهدف مسلحون المقر الرئيسي للسلطة الفلسطينية في المنطقة وأطلقوا عليه النار احتجاجاً على سياسات السلطة. ومن أجل تهدئة الأوضاع في المدينة، قالت السلطة الفلسطينية إنها تتحفظ على اشتيه من أجل حمايته هو. ولكن منذ ذلك الحين أعلن اشتيه الإضراب عن الطعام بينما رفضت السلطة مرتين السماح لمحاميه بالتواصل معه.
يقول هاني المصري: “بدون دعم إسرائيل قد تنهار السلطة الفلسطينية خلال شهور قليلة. لقد رأيت ما جرى في نابلس. لقد اشتعلت النيران في كل مناطق نابلس، وليس فقط في البلدة القديمة، وإنما حتى في الضواحي.”
ومضى يقول: “وهذا يعني أن الأغلبية تؤيد المقاتلين المعارضين الذين يقفون ضد السلطة الفلسطينية. ولو تراجعت السلطة الفلسطينية عن وعودها بإخلاء سراح اشتيه، ومعاملته كقضية وطنية، وليس كقضية جنائية، أظن أن الحركة الاحتجاجية ستتسع وتصبح أضخم بكثير.”
وأضاف المصري: “مشكلتنا هي كالتالي: نحن نريد التغيير، ولكن شروط التغيير لم تنضج بعد. وأنا أخشى من سيناريو الفوضى، وليس من سيناريو التغيير.”
المقاومة في مخيم جنين
يزداد زخم المداهمات الإسرائيلية الليلية في كل أنحاء الضفة الغربية، وكذلك هو حال جميع مؤشرات الاحتلال في عهد الائتلاف الحكومي لنفتالي بينيت ويائير لابيد.
تقارن حركة السلام الآن، وهي مجموعة ضغط إسرائيلية تدعو إلى حل الدولتين، الاحتلال في عهد هذا الائتلاف مع الاحتلال في عهد إدارة بنيامين نتنياهو، من حيث تخطيط المستوطنات، والمناقصات، والبدء بأعمال البناء، والمواقع الاستيطانية الجديدة، وهدم البيوت، واعتداءات المستوطنين، وقتل الفلسطينيين.
ارتفعت المعدلات في جميع التصنيفات. فقد شهد هدم المنازل زيادة قدرها 35 بالمائة، بينما حصلت قفزة بنسبة 62 بالمائة فيما يتعلق بالبدء بأعمال البناء، وزيادة قدرها 26 بالمائة في زيادة التخطيط للوحدات السكنية. وفيما يتعلق بالعنف الذي يمارسه المستوطنون فقد زادت نسبته بما يقرب من 45 بالمائة.
وطبقاً لبيانات الأمم المتحدة، قتل ما لا يقل عن 85 فلسطينياً في الضفة الغربية ما بين بداية العام والحادي عشر من سبتمبر مقارنة بما معدله 41 في عهد نتنياهو – وما لبث الرقم أن تجاوز المائة بالنسبة للمعدل للسنوي بعد شهر من ذلك، مما يؤهل عام 2022 ليكون السنة التي حصد فيها العنف أكبر عدد من الأرواح في الضفة الغربية منذ ما يزيد عن عقد من الزمن.
تخفي صورة لابيد كزعيم معتدل على المسرح الدولي موجة لا هوادة فيها من عنف الدولة ضد المدنيين الفلسطينيين.
كثيرون يقضون نحبهم في حوادث إطلاق نار، تظل التفاصيل الدقيقة فيها غير واضحة ولا تحظى بتاتاً بتحقيق مستقل في ملابساتها.
في حادثة أخيرة بعينها، قتل شابان فلسطينيان وجرح ثالث يوم الاثنين بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار علي سيارة بالقرب من مخيم الجزلون، إلى الشمال من رام الله.
يقول الجيش الإسرائيلي إنه قضى على متهمين، زاعماً أنهما حاولا تنفيذ عملية دهس ضد جنود قوات الدفاع الإسرائيلية. وقال الجيش إنه قتل اثنين وجرح الثالث.
أعلن عن أن القتيلين هما باسل بسبوس وخالد الدباس، وكلاهما من مخيم الجزلون. إلا أن لجنة الأسرى التابعة للسلطة الفلسطينية قالت إنهم زاروا أحد المستشفيات في القدس ورأوا هناك باسل بسبوس وهو يتلقى العلاج من جروح أصيب بها.
توقف السلطات الإسرائيلية منذ وقت طويل عن تأكيد من هو المتوفى ومن هو الجريح، ناهيك عن أن تعيد جثث الموتى إلى أسرهم للقيام بإجراءات الدفن.
سمع يحيى الزبيدي من وسائل الإعلام الإسرائيلية أن شقيقه داود توفي متأثراً بجراحه في مستشفى حيفا، إلا أن المستشفى رفض تسليم الجثة.
قاتل الزبيدي في الانتفاضة الثانية، التي انطلقت في عام 2000، وقضى ستة عشر عاماً في السجن ما بين 2002 و 2018. وكان شقيقه، زكريا الزبيدي، واحداً من الأسرى الستة الذين هربوا من سجن غلبورا في سبتمبر / أيلول من عام 2021، وما لبثوا بعد ذلك أن أعيد اعتقالهم الواحد تلو الآخر.
يقول الزبيدي: “لم تغيرني السنون التي قضيتها في السجن، ولكني أفهم عدوي جيداً. لم يجعلنا السجن نتوقف أبداً. سميت نجلي أسامة، على اسم صديق لي تعرض للقتل. والولد الآخر اسمه محمد، والثالث داود على اسم شقيقي.”
تورث المقاومة بالفعل من جيل إلى جيل.
كان اشتيه، رجل حماس الذي ألقي القبض عليه في نابلس، مقرباً من إبراهيم النابلسي، القيادي في الجناح العسكري لحركة فتح، كتائب شهداء الأقصى، الذي أطلقت عليه القوات الإسرائيلية النار وأردته قتيلاً في شهر أغسطس / آب.
كان النابلسي، والذي كان دون العشرين من عمره، نجل أحد كبار ضباط المخابرات في السلطة الفلسطينية.
يقول والد النابلسي، أي ضابط المخابرات في السلطة الفلسطينية: “كان إبراهيم هو الذي يتصيدهم (أي الجنود الإسرائيليين) وليس العكس. كلما سمع عن مداهمة ينفذها الجيش الإسرائيلي كان أول من يخرج لمواجهتهم. ذلك كان قدره. الحمد لله على ذلك.”
ترك النجل البالغ من العمر 18 سنة رسالة أوصى فيها بأن تلف جثته بالعلم الفلسطيني وليس بعلم الفصيل الذي كان ينتمي إليه.
يقول مصطفى البرغوتي: “وذلك في حد ذاته مؤشر مهم على وعي جديد آخذ في التنامي في أوساط الشباب الفلسطيني.”
حولت لبنى العموري منزلها إلى مزار لنجلها المتوفى جميل، القائد الشاب في الجهاد الإسلامي داخل المخيم، والذي حوصر في كمين نصب له أثناء توجهه لحضور زفاف صديق له قبل عام.
وعندما حاول الهرب أطلق عليه الرصاص في ظهره. كما قتل في تبادل إطلاق النار ضابطا أمن فلسطينيان. تراها تمزج بين فخرها بنجلها، الذي اعتبر بطلاً محلياً، وبين حزنها كأم على فراقه.
تقول لبني: “في المدرسة كان جميل يتشوق للانضمام إلى المقاومة، ولكنني لم أكن أسمح له. اشتريت له سيارة ودفعت به نحو العمل. أردت له أن يكون سائق أجرة، ولكنه باع السيارة واشترى بثمنها بندقية، وبدأ بنفسه دون أن تقف من ورائه أي جماعة. ولم يكن في الجهاد منذ ستة شهور قبل وفاته.”
انهمرت الدموع من عينيها وهي تتحدث عن نجلها قائلة: “كان ولداً صالحاً. كان يقدم كل ما يتوفر لديه من مال أو طعام للعائلات الفقيرة. غضب بسبب الأحداث في القدس، حينما وقع اجتياح المسجد الأقصى. ورأى ما كان يحدث في الضفة الغربية ولم يتمكن من منع نفسه من المشاركة.”
وأضافت: “لا نعرف طعم الراحة داخل المخيم. ولكننا لا نكف عن الاعتناء ببعضنا البعض. لا تجد في المخيم من يفكر بالمستقبل. لدي ابنان آخران، وقد شاهدا ما جرى لشقيقهما. ولذلك بت أخشى عليهما. عندما أسمع إطلاق نار، يهرع الجميع إلى الداخل.”
سألت الزبيدي ما إذا كان يظن بأنه سيرى نهاية الاحتلال في حياته.
أجاب بدون أدنى تردد: “نعم.”
وأضاف: “الاحتلال ينهار، فهو يفشل عاماً بعد عام. نحن مقاتلون صالحون. وهم يحاولون تغيير الأرض لأنهم يفهمون أن لنا الحق فيها وأنها تعود لنا.”
أشار الزبيدي إلى المباني في مخيم جنين وقد طليت باللون الأصفر. إنها المباني التي أعيد إنشاؤها من حطام معركة جنين في عام 2002 حينما قامت القوات الإسرائيلية بتجريف الأحياء لشق طريق لها عبر المخيم. قتل في القتال حينذاك ما بين 52 و 54 فلسطينياً بالإضافة إلى 23 جندياً إسرائيلياً.
وبينما كنا نتحدث انضم إلينا رجل اسمه محمد يصف نفسه بأنه من الناجين من تلك المعركة.
كان محمد حينذاك صبياً وكان يمكث يومها داخل البيت مع أمه وأبيه. كانت أمه تخبز الخبز للمقاتلين في الشوارع في الخارج، حسبما يتذكر. ويتذكر أيضاً أن انفجاراً وقع وساد الضباب في الغرفة. كانت والدته ملقاة فوق الخبز وتنزف، وكانت تغيب عن الوعي تارة وتصحو تارة أخرى.
يقول محمد: “غفوت إلى جانبها. طلبنا سيارة الإسعاف، ولكن الإسرائيليين منعوها من الوصول إلينا. وفي الصباح صحوت من نومي لأجد والدي يغطي والدتي بخمار، ويقول لي: هي نائمة وأنت الآن معي.”
قال محمد إنه سمى ابنته مريم على اسم والدته.
مخيم جنين محرر من السلطة الفلسطينية، التي لا تجرؤ على دخوله، ومحرر كذلك من الاحتلال الإسرائيلي. لا توجد مستوطنات حول جنين، ولذا فإن جميع الفصائل الفلسطينية المسلحة هي القانون.
أبو أيمن هو الاسم الحركي لقائد الجهاد الإسلامي داخل المخيم.
يقول أبو أيمن: “جميع الفصائل في داخل جنين هي نفس الشيء. لا أحد منا يقبل ما يفعله عباس، ومن غير الوارد أن يقبل أي منا برجل مثل الشيخ. نحن لا نعترف بالانتخابات ولا بالبرلمان.”
ويضيف: “لدينا وحدة. وإذا واجهنا أي مشكلة، فنحن لا نتكلم مع السلطة الفلسطينية ونطلب منهم المجيء لمساعدتنا. لدينا كل ما نحتاجه، وحتى المال.”
ثم يقول: “في داخل المخيم، نحترم بعضنا البعض، حتى الأطراف المختلفة. لا يمكن للناس أن يعيشوا هكذا {تحت الاحتلال} إلى الأبد. ولسوف تبقى المقاومة. نحن نعيش في حرية هنا، وهو الإحساس الذي يرنو إليه الجميع في فلسطين.”
إلا أن مخيم جنين يدفع ثمناً باهظاً مقابل حريته النسبية. ففي كل شهر تقع مداهمات دموية. بعد أيام قليلة من لقائنا، نجا أبو أيمن بصعوبة من كمين نصبته له قوات الأمن الإسرائيلية داخل غابة بجوار المخيم.
وعن ذلك يقول: “أنا الآن في قائمة أكثر المطلوبين إسرائيلياً.”
ويقول الزبيدي: “الإيمان بكرامتنا هو كالإيمان بالله. ما الذي أريده في الحياة؟ أريد أن يشعر ابني بالأمان. ماذا تتوقعون من هذا الشعب؟ نحن نواجه الظلم ويريدون منا أن نجلس هادئين في بيوتنا. ما الذي تتوقعونه؟”
( ميدل إيست آي )