هشام جعفر
يجادل هذا المقال بأن الجدل العام والبحث العلمي يجب أن يتحرر من “الهوس بالإسلامية”، بمعنى اختزال الظواهر المركبة وتبسيطها في البحث عن مدى حضور الإسلامية كأيديولوجية فيها، وعلاقتها بالإسلاميين كممارسة وتنظيمات. وأحب أن أؤكد منذ البداية أن مطالبتي بالتحرر من هذا الهوس لا تعني بأي حال تبني مفاهيم شاعت لفترة وثبت عدم تحققها الواقعي، من قبيل ما بعد الإسلام السياسي أو نهاية الإسلام السياسي.
الأديان جميعا لها تعلُّق بالمجال العام، فمن التعسُّف القول إن الدين مسألة تتعلق بالفرد وحسب، والحال أننا نعلم أن ما هو فردي لا ينفك عن التحول إلى اجتماعي، أي قابل لأن يصبح ذا صلة بالسياسي، ولكن تتفاوت الأديان من جهة حدود هذه العلاقة ومدى شمولها أو اتساعها لتدخل في تفاصيل المجال العام من عدمه
حجتي في ذلك تستند إلى ثلاثة مقومات:
أن الجدل والبحث العلمي قد استند في معظمه إلى حضور الديني -وتأمل عزيزي القارئ أني أستخدم لفظ الديني وليس الدين، وهو ما أشرحه لاحقا- في المجال العام باعتباره استثناء، وقد ترتب على ذلك النظر إلى الإسلاميين باعتبارهم استثناء أيضا، لذا فقد جرت دراستهم في مجال بحثي مستقل ضمن دراسات الشرق الأوسط، ولم تتم دراستهم ضمن مجالات النظم السياسية.
أن الهوس بالإسلامية قد خلق ذهنا خاصا به، تم من خلاله صياغة الأسئلة والقضايا من قبيل: الإسلام والديمقراطية، والإسلام وحقوق الإنسان.. إلى آخر القائمة المعروفة للجميع (وتأمل عزيزي القارئ أيضا استخدام لفظ الإسلام في السؤال عن موقفه في مقابل استخدامي للديني). وفي نفس الوقت، فقد قام بالتغطية على عديد من الظواهر والقضايا والأسئلة، كما ألقى بظلاله على عديد من الممارسات خاصة في المجال السياسي.
تغيّر السياقات التي دشنتها انتفاضات الربيع العربي، وما تمخّض عنها من ظواهر بما يدعونا إلى إعادة التفكير في أجندة جديدة من القضايا والأسئلة والظواهر الأولى بالنظر والدراسة.
الديني والمجال العام
الأديان جميعا لها تعلُّق بالمجال العام، فمن التعسُّف القول بأن الدين مسألة تتعلق بالفرد وحسب، والحال أننا نعلم أن ما هو فردي لا ينفك عن التحول إلى اجتماعي، أي قابل لأن يصبح ذا صلة بالسياسي، ولكن تتفاوت الأديان من جهة حدود هذه العلاقة ومدى شمولها أو اتساعها لتدخل في تفاصيل المجال العام من عدمه.
العلاقة هي في حقيقتها بين الديني والمجال العام؛ الديني هنا: تأويلات وتفسيرات وقراءات للدين، ومؤسسات وأشخاص/ جماعات وتنظيمات، وتوظيفات واستخدام للخطابات الدينية لإضفاء الشرعية على السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أو الصراع حول من يملك هذه الشرعية.
ومن ثَمَّ فإن علاقة الديني بالمجال العام متطورة، لأنها ترتبط بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا السياسية.
متعددة، لأن إدراكات البشر وقراءاتهم للنص الديني تختلف وتتفاوت، وفي أحيان تكون متصادمة متناقضة مع بعضها، تناقضا قد يصل إلى الصراع.
وعلى الرغم من هذه البديهية، فإن معظم دراسات العلوم السياسية الغربية التي تخصصت في دراسة الإسلاميين في المنطقة قد تبنت نظرية التحديث، بمعنى أن مزيدا من الانخراط فيها يعني مزيدا من العلمنة أي إخراج الدين من المجال العام ليكون شأنا فرديا، وهي حقيقية ثبت خطؤها تاريخيا وواقعيا. ما جرى هو تداخل بين الظواهر وتجاور فيما بينها، وهو ما دفع هذه الدراسات لاحقا لتصحيح هذا النظر من خلال اقتراح المقارنة بين الإسلام والأديان الأخرى في علاقتها بالسياسة، واستخدام ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية كاقترابات منهاجية جديدة لدراسة الإسلاميين، ولكنها ظلت في النهاية أسيرة لحظة النظر الأولى المرتبطة بنظرية التحديث.
وعلى الوجه المقابل، فإن الأيديولوجية الإسلامية -كما قدمتها أطروحة البنا والتي تأسست عليها معظم الممارسة الإسلامية الحديثة- ادعت صراعها مع الحداثة الغربية بالهجرة إلى الإسلام الصحيح، وهو ما ثبت خطؤه أيضا، ليس من جهة اختراق الحداثة لأفكار البنا وشكل تنظيمه وجل الحركات الإسلامية من بعده فقط، ولكن أيضا لأن الديني والحداثة قد تفاعلا بحكم التجاور بما أنتج ظواهر مركبة في واقعنا المعاصر، فقانون الأحوال الشخصية -على سبيل المثال- في الدولة الحديثة يستند إلى الشريعة والفقه، ويصاغ في مواد قانونية محكمة قام بها قانونيون تلقوا تعليما حديثا، ويشرّعه مجلس للنواب وهو مؤسسة بنت الحداثة، ويحكم به قضاة تلقوا تعليما يختلف عن تكوين الفقهاء وإن تضمنت مناهجهم بعض مقررات الشريعة؛ وهذا مثال من أمثلة عديدة يمكن تقديمها للدلالة على التداخل الكبير الذي حدث بين الدين والحداثة.
نحن هنا بإزاء أطراف مختلفة ومتباينة تقدم لنا الإسلام والحداثة باعتبارهما بنيتان متمايزتان مختلفتان، وبالضرورة مصطرعتان على المستوى الفكري والنظري، رغم تداخلهما على المستوى الواقعي ومنذ اللحظة التاريخية الأولى التي جرى الاصطدام بينهما عسكريا وحضاريا في حملة نابليون 1798، ورغم وجود حداثات متعددة غير الغربية، وطبعات متعددة لفهم الإسلام غير فهم البنا وأصحابه.
إذا تمّ تقديم الإسلام وإدراكه على أنه بنية متمايزة تعكس البنية المتمايزة للدولة العلمانية، فلا بدّ أن تتركز الأسئلة على كيف يعكس الإسلام السياسي المثال الغربي في الحداثة والديمقراطية والمرأة وحقوق الإنسان والمثلية الجنسية… إلخ.
خطورة هذا الفهم المستند إلى الأنماط المثالية المصمتة أنه ينفي أو يصادر التعددية التي هي سمة لصيقة بالمجالين: الديني والحداثة، ومما ساعد على نفي التعددية هو التركيز على دراسة الإسلاميين فقط، بما أدى إلى عدم النظر إلى مساحات التقاطع بين الديني وبين الحداثة في المجالات كافة؛ فاستجابة المسلمين للحداثة وتفاعلهم معها اتخذ مسارات متعددة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وفي النظم وهياكل الدولة.
هذا الفهم يفتحنا على موضوعات ومجالات جديدة تدور حول سؤال: كيف يحيا المسلم المعاصر بإسلامه في الزمن المعاصر؟ وهو سؤال لا يتعلق بالمجال السياسي فقط الذي ابتلع المجالات الأخرى نتيجة التركيز على الإسلامية والإسلاميين.
هل في التحرر من الاهتمام بالإسلاميين قضاء على مستقبل عديد من الباحثين والصحفيين -وأنا منهم- الذين اختصوا بدراستهم؟ ربما، لكن ماذا يفعل عديد الأنظمة وكثير الأجهزة التي بنت شرعيتها على مواجهتهم في البر والبحر وفي الأرض وفي السماء، وقد خصصوا لذلك كثيرا من الموارد؟
ما الذي يعنيه تقديم الإسلام -كما يفهمه الإسلاميون ويدرسه الغربيون- في مواجهة الحداثة باعتبارهما نمطين مصطرعين بحكم تمايزهما؟ وما الذي يعنيه نفي التعددية في مجالي الحداثة والدين؟
تداعيات خمسة تدور حول جودة معرفتنا بالإسلام وإدراكنا له، على أن أترك الحديث عن تأثير ذلك في دراسات الشرق الأوسط الغربية لمقال لاحق.
الإفراط في تسييس الإسلام، باعتبار أن الفهم الذي يقدمه الإسلاميون له هو الأساس المعياري للإسلام الحديث. قمت من أواخر الثمانينيات من القرن الماضي بالتحذير من زيادة التسييس للحالة الإسلامية، لأنها تخلق عند الأتباع والخصوم ذهنية تقوم على الصراع تؤدي إلى فهم اختزالي لطبيعة السياسة، فتصبح صراعا على السلطة وليس صراعا على نشر السلطة في المجتمع (“كلكم راع ومسؤول عن رعيته”، كما ورد في الحديث الشريف) وإعادة توزيع الثروة فيه (“كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”، كما ورد في سورة الحشر).
إذا جرى تسييس الإسلام، واستُخدم للصراع على السلطة، فإن مجمل الظاهرة الإسلامية تتحول إلى ملف أمني وسياسي. تعاملت الأنظمة العربية والغربية على السواء مع الإسلاميين من هذا المنظور، ورغم تطورات الأحداث واختلافها على مدى ثلاثة أرباع القرن -أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945- فإن النظرة الأمنية والسياسية هي التي ظلت مهيمنة على مجمل النظر للإسلام والإسلاميين، وإن اختلفت الدوافع أو تقاطعت المصالح بين النظم العربية وتلك الغربية.
تقديم الإسلام وفق فهم الإسلاميين أدى إلى تهميش عدد كبير من الهياكل والمفاهيم التقليدية المهمة، فضلا عن العديد من الردود الحديثة التي لم يتم تضمينها في خطاب الإسلاميين. وإذا كانت النقطة الأولى قد أدت بنا إلى اختزال الإسلام إلى “سياسة” فقط، بما أدى إلى التعامل معه من المنظورين الأمني والسياسي؛ فإن النقطة الثالثة تعني أن الإسلام في الزمن الحديث يقتصر على استجابة الإسلاميين فقط، وهو ما يكذبه الواقع، فقد شهدنا استجابات متعددة لدى الفرد وبين المجتمع وفي هياكل الدولة على مدى تاريخنا الحديث كله، وهو ما يستدعي أن نوليه اهتماما لأنه يتعلق بالمستقبل قبل أن يخص فهمنا لذاتنا وموقع التاريخ فيه. كانت هناك استجابات متعددة لتحديات الواقع من منظور المسلمين الذين يريدون أن يعيشوا الزمن المعاصر كمسلمين، لكن لم تلق الاهتمام الكافي بالنظر والدراسة بما أثر على جودة فهمنا للواقع، وللأسف تم استبعادها من المجال البحثي الذي اختص به الإسلاميون وحدهم.
مقتضى النقاط الثلاث السابقة ظواهر ثلاث متقاطعة ومتداخلة شهدناها على مدى العقود الأربعة الماضية، وهي سنوات حضور الإسلاميين في المجال العام، هي:
الاستقطاب بكل أنواعه وبين كافة الفرقاء، وهذا لا يعني أنني أقصد تحميل الإسلاميين وحدهم مسؤولية الاستقطاب، ولكن أقول إن منهج النظر إليهم والموضع الذي وضعوا أنفسهم ووضعهم الآخرون فيه، هو ما أنتج ذلك. هيمنت الحروب الثقافية على السياسة، وأصبح الصدام بين القيم الإسلامية وغيرها من القيم الأخرى هو الموضوع المفضل للجميع، رغم أن الاستناد إلى الدين في الواقع ينتج قيما متعددة وفي أحيان كثيرة متضادة، رغم ديباجتها الدينية.
يجعل من السياسة ممارسة ثقافية تقوم على الجدل الفكري ولا تجد جذورها في التعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، ومن ثم يسهل العصف بها من النظم التسلطية، كما جرى في عديد الدول بعد الربيع العربي.
أخيرا، فإنه يصادر التعددية ويغلّب الإقصاء باعتبار أننا إزاء استجابة واحدة صحيحة للمسلم في الزمن الحديث، بما يؤكد الاستثنائية الإسلامية، ويخلق التكفير.
5. المبالغة في تقدير دور الإسلام كمحرك مركزي لجميع المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية في الشرق، وهو ما يطلق عليه ظاهرة الهوس بالإسلام التي ناقشتها في مقال سابق، ولكن ما يمكنني إضافته هنا هو أنه يجعل الجهود تنصرف ليس لإصلاح الهياكل والبنى والسياقات التي أنتجت هذه المشاكل، ولكن إلى البعد الثقافي الذي يعد أحد تجلياته هو إصلاح الخطاب الديني.
إذا كان الإسلام هو المشكلة الرئيسية، فلماذا لا يقدم أيضًا الحل الرئيسي؟ هذا النوع من الحتمية الإسلامية يتسم بالثبات رغم التغير الذي هو سمة العصر، ووفقا لهذه الوصفة -لإنقاذ الإسلام من نفسه- فكل ما نحتاج إليه هو مارتن لوثر المسلم (للمفارقة أطلق هذا الوصف على أحد أكثر الرؤساء دكتاتورية في الزمن المعاصر) الذي سيقوم بإصلاح وتحديث وتعديل الإسلام على غرار الصدام الأوروبي في القرن السادس عشر بين البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية.
لا يعنينا في هذا المقال تتبع تأثير الربيع العربي بموجاته المتعاقبة على الإسلاميين، فقد خصصت له مقالات عدة أعلن فيها نهاية الاستثنائية للإسلاميين في المجال السياسي، لكن ما يعنينا هو نقطتان -في تقديري- قد تكتسبان أهمية في المستقبل:
الأولى: ما يشهده التدين -خاصة وسط الشباب والشابات- من مظاهر جديدة قد تعيد تشكيل المشهد الإسلامي برمته. تديّن الجامعيين من شباب وشابات ما بعد الانتفاضات ذو طبيعة فردية، نواته الصلبة لا تتكون بالتنظيمات وإنما بشبكية التفاعلات وكثرة المبادرات التي يجمعها علم شرعي، وتصوف عاطفي، وتتشكل ملامحه على مواقع التواصل وبالممارسة العملية لا بالخطاب الأيديولوجي ولا بالمشايخ والمجتهدين العظام الذين انتهى وجودهم على الأقل في هذه الفترة، ويتميز بحضور نسائي طاغٍ، وموقفه من السياسة لم يتحدد بعد، وإنما ترسمه السياقات وتطورها والأشكال الجديدة من الفعل السياسي.
الثانية: نظرًا لأن المسلمين في المنطقة وخارجها يعملون لتحقيق المساواة والكرامة والعدالة والحق في المشاركة في السياسة، فمن المحتم أن ينشروا الخطابات الدينية ويتبنوها لأغراض التحرر، وهو ما يستحق المتابعة.
وقد يكون من المفيد في هذه النقطة مناقشة الصراع الدائر بين فواعل عديدة في المنطقة على من يمثل الإسلام، وهو للحقيقة صراع سياسي بامتياز. ورغم ما يوجد بين أطرافه من تنافس، فإن جوهر الإسلام الذي تقدمه هذه الأطراف جميعا واحد: فهو منزوع الديمقراطية، ذو طبعة نيوليبرالية في الاقتصاد، ويدمج القوة الصلبة بالناعمة كما ظهر في تدخلات الأطراف الإسلامية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وأخيرا فإنه متسامح مع الآخر، إقصائي في الداخل حين تطبّع بعض أطرافه مع الكيان الصهيوني وتقبل بالتعددية الدينية، وترفض في نفس الوقت قبول الإسلاميين وتصفهم جميعا بالإرهابيين.
هل في التحرر من الاهتمام بالإسلاميين قضاء على مستقبل عديد من الباحثين والصحفيين -وأنا منهم- الذين اختصوا بدراستهم؟ ربما، لكن ماذا يفعل عديد الأنظمة وكثير الأجهزة التي بنت شرعيتها على مواجهتهم في البر والبحر وفي الأرض وفي السماء، وقد خصصوا لذلك كثيرا من الموارد؟
( المصدر : الجزيرة نت )