بسام البدارين
تسعة و ستون في المئة من الأردنيين لا يثق بعضهم في بعض ويعتقدون بأنه لا يمكن الثقة بأغلبية الناس في الأردن.
ما الذي تعنيه ببساطة هذه الواقعة الرقمية بعدما تجاهلتها الحكومة والسلطات والشارع معاً إثر ورودها ضمن بنية استطلاع مثير للجدل نظمه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية لتقييم أداء الحكومة الحالية دورياً قبل نحو 10 أيام. فلا أحد عملياً فهم حتى اللحظة ما هي علاقة توجيه سؤال استطلاعي لعينة عشوائية وطنية حول ثقة المواطنين بعضهم في بعض مع أسئلة استطلاعية أخرى موسمية كان الهدف منها تقييم أداء الحكومة الحالية برئاسة الدكتور بشر الخصاونة عشية اقترابها من عامها الثاني بعد التشكيل.
بعيداً عن الحكومة وحسابات الاستطلاع، أثار الرقم حول مقادير ثقة الأردنيين بعضهم في بعض لغطاً وجدلاً، لكن خلف الستارة والكواليس وسط الانطباع بأن هذا الرقم مقلق للغاية، برأي السياسي والبرلماني المعروف الدكتور ممدوح العبادي، الذي لاحظ على هامش نقاش مع «القدس العربي» بأن ترك مثل هذا الرأي في استطلاع ينفذه مركز تمتع بهامش استقلالية ومهنية من الصعب إنكاره أخطر من حيثيات الرقم نفسه.
وحده دون بقية السياسيين، توقف العبادي عند الرقم مجدداً، ملمحاً إلى أن تركه كنتيجة لاستطلاع استبياني ولانطباعات شخصية دون خلفية، قد يؤشر على مناطق حساسة لا نرغب جميعاً بحكم العادة والتقاليد بالتحدث عنها.
المثير حتى لباحثين مستقلين مثل يزن قيسي، أن بند ثقة الأردنيين في بعضهم نزل بنسبته الرقمية كالصعقة وصدم المجتمع دون توضيح نقاط في غاية الأهمية، أبرزها الخلفية الذهنية التي دفعت أصلاً في اتجاه طرح السؤال والخلفية الذهنية التي تحركها توقعات النتائج أو النتيجة.
بين العناصر المهمة -حسب قيسي- في أسئلة عمومية حساسة من هذا النوع معرفة من سأل من ومتى ولماذا، ومعرفة الخلفية الثقافية والمناطقية والسكانية لكل من طرح عليهم مثل هذا السؤال، إضافة إلى ضرورة فهم حيثيات وتفاصيل الإجابة، وإلى أين تصل وعلى أي أساس، في مقايسة سياسي مروان الفاعوري. بالخلاصة، ثمة ضرورة ملحة لمعرفة أسباب انهيار ثقة الأردنيين بعضهم في بعض؛ فمثل هذا الرقم مقلق ومرعب عندما يتعلق الأمر بمناخ اليقين العام وبتقاليد مستقرة منذ عشرات السنوات، كان يثق مواطنون ببعضهم خلالها.
لا يصوت الفاعوري لحاجته إلى فهم سبب طرح السؤال فقط، لكنه يصوت لحاجة وطنية ملحة أيضاً إلى قراءة نتائج السؤال الاستطلاعي وما الذي تعنيه وإلى ماذا تقول وما الذي تعكسه؟ والخشية كبيرة -حسب الفاعوري- من أن يكون التراجع الحاد في ثقة الأردنيين ببعضهم سببه فقدان ثقتهم بالمؤسسات الرسمية أصلاً.
ولذلك، يمكن أن يقترح الجميع -حسب عدة خبراء- على مركز الدراسات الاستراتيجية نفسه والذي يعـدّه العبـــادي حائزاً نسبة ثقة ومصداقية ملحوظة؛ لإعادة تقييم الرقم الصــدمة والتعــامل بجرأة وشفافية ومصارحة وطنية إذا ما كان الرقم دقيقاً، والسؤال الذي قاد إليه استطلاع فعلاً ملتزم بالمنهجية والعلمية ولا يتضمن أي خبث أو دهاء ســياسي مغــرض أو هــادف مســبقاً.
يعلم الجميع بأن الأردن يعاني من التجاذبات الديموغرافية، وبأن قوانين الانتخاب المتكررة فصمت المجتمع وبنيته عشائرياً في سلسلة مغامرات ضيقة الأفق على مدار سنوات. ويؤمن كبار المعارضين المستقلين الوطنيين بأن بعض المغامرين أحياناً يعبثون بالوحدة الوطنية وبالانسجام بين مكونات المجتمع، وبأن بعض الحكومات جازفت أحياناً في الإعلاء من قيمة الهويات الفرعية، وبأن الأردن يعاني من أزمة اسمها الهوية الفرعية، الأمر الذي تطلب طرح مفهوم الهوية الوطنية العابرة حتى في نقاشات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، مما تسبب بجدل غير نهائي هنا حصراً انتهى بالوصفة التقليدية، حيث تجنب تعريف المواطنة والانتقال للصفحة التالية درءاً للإثارة المتخيلة في كل الأحوال. ويعلم الجميع بأن المسألة تراكمية، وبأن تفسيخ المجتمع وبنيته كان -وفقاً للشيخ سالم الفلاحات- من بين الوصفات التي ابتكرت صياغات بعض قوانين وأنظمة الانتخابات.
كل ذلك معلوم مسبقاً، لكن غير المعلوم بعد ليس فقط خلفية طرح سؤال ثقة المواطنين ببعضهم، لكن أيضاً حقائق وتواقيت من طرح عليه السؤال وما الذي كان يدور في ذهنه عندما أجاب ودون أن يقدم مركز الدراسات الذي اقترح صيغة السؤال أصلاً وخلص بنتيجة مقلقة شرحاً تفصيلياً يملأ الفراغات، ستترك القراءات والتفسيرات لاجتهادات فردية أو جماعية على الأرجح من الطراز الذي يسهم في خلخلة الاستقرار الاجتماعي.
وإلى أن يحصل ذلك، يمكن القول بأن مركز دراسات الجامعة الأردنية ألقى حجراً كبيراً يصنع الدوائر في مياه راكدة. تلك قد تكون أحياناً واحدة من المبادرات والواجبات الأساسية عند الغرق في تفاصيل استطلاعات هادفة وعميقة أو جريئة.
( القدس العربي )