مالك التريكي
سمعت من صديقين في الأيام الأخيرة قولين حافزين على التفكير والاعتبار. قال الأول، تعليقا على تدهور الأوضاع في تونس على كل صعيد، إن ما يغفل عنه الكثيرون هو أن الفساد ليس شر الأخطار، بل إن عدم الكفاءة أخطر على البلاد من الفساد! أما الثاني فقد روى أن رئيس الاستخبارات الفرنسية في الستينيات أخبر الرئيس ديغول أن أجهزته اكتشفت أن أحد العملاء الفرنسيين يعمل جاسوسا للأمريكان، مؤكدا أنه لا شك في أن الرجل عميل مزدوج ولكن ليس ثمة دليل مادي يمكن أن يدينه. قال ديغول: لا بأس، فلتضربوا له معي موعدا يوم كذا. وهكذا كان. فما أن دخل الرجل وصافح الرئيس حتى فاجأه بالسؤال الصاعق: منذ متى تعمل جاسوسا لدى الأمريكان؟ أجاب: منذ عشر سنين. سأله ديغول: فبماذا كلفوك؟ قال: بالعمل ما أمكن على الحيلولة دون تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب!
ولعل تونس وبريطانيا هما اليوم من أبرز الأمثلة على شدة الخراب الذي يمكن أن يجلبه عدم الكفاءة. وما انعدام الكفاءة، الذي هو مبدأ الرداءة وقانونها الأوحد، إلا نتيجة لعدم اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب. إذ إن الرداءة السياسية التي زحفت على تونس منذ أواخر 2014 ثم أناخت عليها بكل ثقلها منذ أواخر 2019 هي نتيجة لاعتماد النظام السياسي غير المناسب وانتخاب البرلمانيين غير المناسبين ثم انتخاب الرئيس غير المناسب. أما الرداءة الحكومية التي زحفت على بريطانيا منذ منتصف 2019 (اختيار بوريس جونسون بالاقتراع الحزبي زعيما للمحافظين خلفا لتيريزا ماي) ثم أناخت عليها بكل ثقلها منذ الشهر الماضي (اختيار ليز تراس خلفا لبوريس جونسون بالاقتراع الحزبي، أي بأصوات 170 ألفا من المحافظين الذين لا يمثلون سوى 0،5 بالمائة من مجموع الناخبين البريطانيين!) فهي نتيجة لانتخاب الحاكم غير المناسب ثم الخلف غير المناسب.
ولعل تونس وبريطانيا هما اليوم من أبرز الأمثلة على شدة الخراب الذي يمكن أن يجلبه عدم الكفاءة. وما انعدام الكفاءة، الذي هو مبدأ الرداءة وقانونها الأوحد، إلا نتيجة لعدم اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب
وقد سبق للفكر السياسي أن لاحظ أن السياسة عموما، والسلطة خصوصا، هي المهنة الوحيدة التي ليس فيها شروط للقبول ولا اختبارات كتابية للانتداب ولا مقابلات شفهية للتوظيف، بل هي مفتوحة لكل من أراد. السياسة، والسلطة تحديدا، مهنة مشاعة يمكن أن يظفر بها أستاذ جامعي مثل وودرو ويلسون وباراك أوباما أو مثقف دارس للعلوم السياسية مثل جون كندي، كما يمكن أن يظفر بها ممثل من الدرجة الثانية مثل رونالد ريغان أو رجل محدود القدرات الذهنية مثل جورج بوش الابن أو حتى مراهق طاعن في الجهالة الجهلاء مثل دونالد ترامب. وقد كان الظن أن وقوع الحكم فريسة لمن هب ودب إنما هو قدر دول الاستبداد التي يعود فيها الحكم للأقوى أو الأمكر والأغدر، أو هو من الحالات الشاذة التي يندر أن تحدث في الدول الديمقراطية، باستثناء الولايات المتحدة لأن نظامها السياسي ليس في مأمن من غرائب الشطط والشذوذ الناجمة عن ارتهانه لسلطة المال والدعاية. سلطة المال الذي توفره اللوبيات فتشتري به الانتخابات. وسلطة الدعاية التي لا تكترث للفارق بين الحقائق والأكاذيب، ذلك أن الأباطيل والأكاذيب هي مما يحميه التعديل الأول للدستور الأمريكي باعتباره داخلا في نطاق حرية التعبير، كما تقبله شرائح من الرأي العام باعتباره من صميم التنافس في «سوق الأفكار».
أما بريطانيا، فقد كان الظن الشائع أنها منيعة على الرداءة التي يجرّها عدم الكفاءة وأنها عنوان الجودة والامتياز في تصريف شؤون الحكم. ولهذا الظن ما يدعمه تاريخيا. إذ إن النخبة الحاكمة قد ظلت تصطفى، على مدى ثلاثة قرون، من خريجي أوكسفورد وكمبردج، وكان معظمهم من دراسي البي بي إي، أي الفلسفة وعلوم السياسة والاقتصاد. وقد كان رئيس الوزراء هربرت أسكويث على سبيل المثال متخصصا في الكلاسيكيات اليونانية والرومانية، وكذلك كان أنثوني إيدن وهارولد ماكميلان. كما كان رئيس الوزراء آرثر بلفور (من 1902 إلى 1905، قبل أن يعرفه العرب عام 1917 وزير خارجية سيئ الذكر يمنح ما لا يملك لمن لا يستحق) أستاذا في الفلسفة، وقد نشر كتبا مثل «أسس الاعتقاد» و«دفاعا عن الشك الفلسفي». وما نيل ونستون تشرشل جائزة نوبل للآداب إلا دليل على أن تفوق النخبة السياسية البريطانية لم يكن ينحصر في شؤون الحكم والحرب.
لكن شعب البركسيت، الذي أثبت أنه عدوّ نفسه، قلب لبريطانيا ظهر المجنّ، فإذا بها «تختار» رئيسة حكومة رديئة رداءة تتحدى القدرة على التصديق. امرأة خرقاء لا تحسن شيئا. توهمت أن البلاد مختبر لسفاهاتها الإيديولوجية، فما هي إلا ستة أسابيع حتى أرغمتها حقائق الاقتصاد وبسائط السياسة على خزي التنحّي السريع. أما في تونس فالجميع يعلم أن الرداءة أوصلت الدولة بأكملها إلى شفا الهاوية، ولكن أنّى للبلد المسكين بمن ينهض ليوقظ الرديء من رداءته!
( القدس العربي )