عبدالناصر سلامة
أراهم واهمين، أو قُل حالمين، أولئك الذين يراهنون على إزاحة الحكم العسكري عن مصر، واستبداله بحكم مدني ديمقراطي، يؤمن بتداول السلطة، يقتنع بوجود الرأي الآخر، يسلّم بحق التظاهر، يرسي قواعد المساواة بين كل فئات الشعب، إلى غير ذلك من عناوين براقة، أصبحنا لا نسمعها ولا نقرأ عنها في وسائل الإعلام المحلية، ولا حتى في كتب ومناهج التعليم -ولو من قبيل الاستهلاك المحلي-، ذلك أنها تصيب الأنظمة العسكرية عموما بحساسية بالغة، وتعدّها مساسا بأمنها واستقرارها، ومن ثم تمهد الطريق لإزاحتها من السلطة.
يجب أن نعترف بأن الطريق إلى الحكم المدني في الديكتاتوريات العميقة أو المتجذرة، مخضب بدماء لا أول لها ولا آخر، وهو أمر مرفوض شعبيا في الحالة المصرية، التي تتابع بأسى بالغ مجريات الأحداث السورية والعراقية والليبية والسودانية واليمنية، وترى فيها أمرا محزنا ومخزيا في آن واحد، وهي الأحداث التي تسلط عليها وسائل الإعلام المحلية الضوء طوال الوقت للتحذير والعبرة.
في الوقت نفسه، فإن أطروحة الحكم المدني على الجانب العسكري أمر غير مقبول، ولو لمجرد المناقشة، وهو الذي تحمّل وصبر على مضض، بالابتعاد المؤقت عن الحكم عاما واحدا (حزيران/ يونيو 2012- حزيران/ يونيو 2013) في أثناء حكم جماعة الإخوان، ولن يقبل تكرار التجربة مرة أخرى، وقد فعل الأفاعيل على مدى الأعوام الثمانية الماضية، لضمان عدم التكرار.
يجب أن نعترف بأن الطريق إلى الحكم المدني في الديكتاتوريات العميقة أو المتجذرة، مخضب بدماء لا أول لها ولا آخر، وهو أمر مرفوض شعبيا في الحالة المصرية، التي تتابع بأسى بالغ مجريات الأحداث السورية والعراقية والليبية والسودانية واليمنية، وترى فيها أمرا محزنا ومخزيا في آن واحد، وهي الأحداث التي تسلط عليها وسائل الإعلام المحلية الضوء
ويمكن الإشارة إلى كثير من الأدلة التي تؤكد ذلك، من بينها: العمل منذ اللحظة الأولى بعد الإطاحة بحكم الإخوان على التجذر في الحياة السياسية، من خلال إنشاء أحزاب كرتونية بقيادات عسكرية هيمنت على البرلمان بشقيه (النواب والشيوخ)، من خلال انتخابات كانت معلومة نتائجها مسبقا، أيضا العمل بوتيرة متسارعة على زيادة التجذر في الحياة الاقتصادية، من خلال السيطرة على الكثير من المشروعات الإنتاجية وغير الإنتاجية، ومن ثم عمليات التصدير والاستيراد، وسوق المال والأعمال، وذلك بصناعة رجال أعمال من العسكريين المتقاعدين، لم يستطيعوا أبدا ملء فراغ نظرائهم المدنيين.
ثم بموازاة ذلك، الهيمنة الرسمية على الشأن الإعلامي، وذلك بشراء والاستحواذ على وسائل الإعلام الخاصة -إلى جانب الحكومية بالطبع-، من صحافة وإذاعة وتلفزيون، والسيطرة على عمليات الإنتاج السينمائية والتليفزيونية من برامج ومسلسلات وأفلام وخلافه، والإصرار على استمرار هذه السياسات، على الرغم من الفشل الذريع الذي أصاب العملية الإعلامية ككل، نتيجة هذه السياسات التي تلتهم مليارات الجنيهات سنويا، وأصبحت مثار تندر القاصي والداني.
هناك بلا شك الكثير من الشواهد التي تؤكد أن عملية التجذر والتمكين في الحكم هذه، تم التخطيط لها بإتقان وعلى كل الأصعدة، بما يجعل من مجرد انسحاب العسكريين من المشهد في أي وقت، بمنزلة انتحار مالي واقتصادي، تنهار معه بنية المجتمع، وتتوقف معه عجلة الإنتاج، خاصة إذا علمنا أن الأمر الآن مرتبط بحركة المجتمع ككل، ومرتبط بإنتاج المخبوزات، ومحطات البترول، وإنتاج اللحوم والدواجن والخضروات، واستيراد الأدوية ومستلزماتها، وحركة الطرق، وإدارة السكك الحديدية، ووضع اليد على أراض شاسعة زراعية وصحراوية، وغير ذلك كثير، بموازاة اقتصاد جهاز المخابرات العامة، الذي لا يقل أهمية وتوسعا.
الكثير من الشواهد التي تؤكد أن عملية التجذر والتمكين في الحكم هذه، تم التخطيط لها بإتقان وعلى كل الأصعدة، بما يجعل من مجرد انسحاب العسكريين من المشهد في أي وقت، بمنزلة انتحار مالي واقتصادي، تنهار معه بنية المجتمع، وتتوقف معه عجلة الإنتاج، خاصة إذا علمنا أن الأمر الآن مرتبط بحركة المجتمع ككل
أذكر في عام 2012، في أثناء حكم المجلس العسكري، شاركتُ في ندوة دعت إليها القوات المسلحة، عرض خلالها اللواء مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية آنذاك، فيلما وثائقيا عن دور الجيش في الاقتصاد وعمليات الإنتاج عموما، من دواجن وبيض وخضروات وفاكهة وطرق وما شابه ذلك، مصحوبا بأرقام بالملايين والمليارات، بالجنيه المصري والدولار، ثم قال تعبيرا خطيرا كان لا بد من التوقف أمامه: “وسوف نقاتل إذا فكر أحد في الاقتراب من اقتصاد القوات المسلحة”!!
اكتشفتُ بعد ذلك أن هذه كانت رسالة الندوة، وهي أن هذا الاقتصاد لا علاقة له باقتصاد الدولة، كما حملت الرسالة تهديدا واضحا لمن يطالبون بدمج اقتصاد الجيش في الموازنة العامة، بأن الأمر خط أحمر ولو تطلب ذلك استخدام السلاح!! مع الوضع في الاعتبار أن هذه الواقعة كانت في توقيت لم تكن خلاله عملية الهيمنة والاستحواذ قد بلغت ذروتها كما هو الحال الآن، ولا عجب أن رأينا أحدهم فيما بعد يتحدث عن أن الجيش قد منح الدولة مبلغا كبيرا من المال يساعدها في الخروج من أزمتها الاقتصادية، وكأن الأمر يتعلق بعلاقة دولتين مختلفتين.
في هذا الصدد أيضا، نذكر هنا مدير الكلية الحربية، وهو يتحدث عن دفعة جديدة من الطلاب الجدد المقبولين بالكلية قائلا: هُم يعرفون تماما أنهم قادة المستقبل، يعرفون أنهم الوزراء والمحافظون والسفراء ورؤساء الجمهورية والمديرون، بما يشير إلى أن ذلك هو الهدف من تعليمهم وإعدادهم، ولم يذكر أنهم سوف يكونون ضباطا مثلا، على اعتبار أن هذه عملية مرحلية من وجهة نظره، وهو الأمر الذي يجب أن نتوقف أمامه طويلا، حتى لا نتوهم أن الأمر من السهولة تغييره، أو إعادة صياغته بمجرد مظاهرات هنا أو احتجاجات هناك.
بالتأكيد، نحن هنا لا نسلّم ولا ندعو إلى التسليم بأن الحكم العسكري يليق بوطن بحجم وتاريخ مصر، وذلك بعد الفشل الذريع الذي شهدته البلاد على كل الأصعدة على مدى 70 عاما هي عمر الحكم العسكري، إلا أننا نحاول التعامل مع الأمر الواقع بما يضمن سلامة البلاد والعباد، وحتى لا نجد أنفسنا أمام أتون مواجهات وانقسامات لا تحمد عقباها، وهو ما تأباه الشخصية المصرية بشكل عام، ويأباه الضمير الإنساني والوطني في كل الأحوال.
في الوقت نفسه، يجب أن نعترف بأن البديل المدني في مصر ليس جاهزا، ولم يكن أبدا جاهزا لاستلام السلطة، في وجود أيديولوجيات متفاوتة شكلا ومضمونا، يسود بينها الاختلاف البغيض أيضا شكلا وموضوعا، لا يؤمن أحدها بحق الآخر في الوجود، ولا يأمن بعضهم بعضا، بما يجعل من فكر الإقصاء حالة مشتركة بينهم جميعا، إقصاء يتوقعه الرأي العام ويعيه جيدا، بل لا يثق الرأي العام في معظمهم، جماعات كانوا أو أفرادا.
كل هذه العوامل مشتركة، تُحتم علينا القبول بالحكم العسكري، ولكن لنسعَ إلى البحث عن رجل عسكري رشيد، أو بتعبير أدق: عن “الحكم العسكري الرشيد” قدر الإمكان، الحكم العسكري الذي يؤمن بالتخصص كلٌّ في مجال عمله، يستمع إلى الآخر، أمرهم شورى بينهم
وقد تفاقمت هذه النظرة لدى رجل الشارع، بعد أن انكشف أمر أصحاب هذه الأيديولوجيات بوضوح خلال أعوام ما بعد 2011 و 2013، لتجعل من جماعة الإخوان (المحظورة حاليا) البديل الوحيد الذي يظل يطل برأسه ويفرض نفسه طوال الوقت، على الرغم من أن معظم أعضاء الجماعة إما في السجون، وإما خارج مصر، وهي الورقة التي يلوح بها إعلام السلطة العسكرية ليل نهار، لإثارة الفزع في أوساط المؤدلجين والطائفيين والمرجفين وغيرهم.
كل هذه العوامل مشتركة، تُحتم علينا القبول بالحكم العسكري، ولكن لنسعَ إلى البحث عن رجل عسكري رشيد، أو بتعبير أدق: عن “الحكم العسكري الرشيد” قدر الإمكان، الحكم العسكري الذي يؤمن بالتخصص كلٌّ في مجال عمله، يستمع إلى الآخر، أمرهم شورى بينهم، يؤمن بدراسات الجدوى، يدرك أهمية التعليم، أهمية المنظومة الصحية، أهمية بناء الإنسان، أهمية الثروة البشرية عموما، يعي فقه الأولويات، يستعين بأهل الخبرة، يدع الإفتاء لأهل الإفتاء، السياسة لأهل السياسة، الاقتصاد لأهل الاقتصاد، في هذه الحالة سوف يحصل القائد الرئيس العسكري، من الشعب على تعظيم سلام كل صباح ومساء عن طيب خاطر، وليس بقوة السلاح، أو التلويح بالمعتقلات وبناء مزيد من السجون.
في هذه الحالة فقط، قد نتجاوز ذلك النفق المظلم، الذي لاح في الأفق بوضوح.
( عربي 21 )