سعيد الحاج
ما زالت أصداء زيارة وفد من حركة حماس دمشق واجتماعه ضمن وفد من الفصائل الفلسطينية مع الرئيس السوري؛ تتردد ولا زال الجدل قائماً بخصوصها. وقد تعرضت الحركة لحملة واسعة من الانتقادات، فضلاً عن مساحات من التشويه والتخوين، من قطاعات واسعة معظمها من الشرائح المؤيدة لها تقليدياً، مثل بعض العلماء والدعاة والحركات الإسلامية وعموم شباب الثورات العربية من الإسلاميين على وجه التحديد.
وقد فصّلت في مقال سابق لي في زوايا تناول عودة العلاقات بين حماس والنظام السوري بين الديني والأخلاقي والسياسي، وذهبت إلى أن البعد السياسي هو الأساس كزاوية نظر في الحدث وليس منطق الاستفتاء المباشر، رغم أنه لا يمكن نفي البعد الأخلاقي عن المسألة بالكلية. ولا يعني ذلك تبرير القرار، وإنما هو سعي لتحديد أرضية التقييم، فالقول بأن القرار سياسي لا يعني صحته بالضرورة، فقد تكون القرارات السياسية مصيبة أو خاطئة.
انتشر عدد كبير من مقاطع الفيديو تذكيراً بخطابات وتصريحات سابقة لقيادات الصف الأول في حماس مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية، رئيس مكتبها السياسي ونائبه سابقاً على التوالي، والتي بررت قرار الخروج من سوريا عام 2012 بعدم الرغبة في الانحياز لأي من طرفَيْ المعادلة السورية الداخلية، فضلاً عن التحديات الأمنية المستجدة بعد الثورة.
السؤال الآن يدور حول ما تغير بعد سنوات من هذه التصريحات والمواقف الحمساوية، إضافة لقتال أفراد محسوبين على حماس مع المعارضة ضد النظام وتدريبهم لها، وهو ما اتهم النظام قيادة الحركة بالوقوف خلفه. ومن هنا جاءت كلمة عضو المكتب السياسي للحركة خليل الحية عن “تصرفات فردية لم تقرها قيادة الحركة”
ولكن الفيديوهات المذكورة تعجُّ بالتعابير الأخلاقية وتعبر عن موقف شبه منحاز، حيث تتكرر كلمات وصياغات من قبيل “الشعب السوري الحر”، و”من دعمنا في الحق لا ندعمه في الباطل”، و”لا يمكن أن نقف إلى جانب نظام يقتل شعبه”، و”المد الثوري”، و”شعوب الربيع العربي”، وغيرها الكثير مما يتصل بالبعد الأخلاقي. وهذا البعد الأخلاقي الذي شاع حول قرار حماس مغادرة الأراضي السورية، مضحيةً بكل المكاسب التي كانت تنعم بها في ظل النظام ودعمه المفتوح ومغامِرَةً بعلاقاتها مع داعمها الرئيس إيران وكذلك حزب الله، يشكل اليوم عقبة أمام تفهم الكثير من الأطراف لقرارها، إذ تحوّل من حجة لها إلى حجة عليها.
السؤال الآن يدور حول ما تغير بعد سنوات من هذه التصريحات والمواقف الحمساوية، إضافة لقتال أفراد محسوبين على حماس مع المعارضة ضد النظام وتدريبهم لها، وهو ما اتهم النظام قيادة الحركة بالوقوف خلفه. ومن هنا جاءت كلمة عضو المكتب السياسي للحركة خليل الحية عن “تصرفات فردية لم تقرها قيادة الحركة”، قاصداً العمل العسكري على وجه التحديد، وإن كانت الجملة الفضفاضة حُمِلتْ على أكثر من قصد ومعنى.
ثمة تقييمات انتشرت عن سبب هذا التغير في موقف الحركة الفلسطينية وسعيها لإعادة العلاقات مع النظام، اثنتان منهما على أقل تقدير تستحقان النقاش، مع ضرورة الإشارة إلى أن تغييراً كبيراً لم يطرأ على البنية القيادية في الحركة خلال هذه الفترة. صحيح أن مشعل ترك رئاسة المكتب السياسي لهنية، إلا أن الأخير كان نائب الأول لدى اتخاذ قرار الخروج عام 2012، وتبنت قيادة الحركة بمجملها القرار في حينه ودافعت عنه، فضلاً عن أن عدداً لا بأس به من أعضاء المكتب السياسي الحاليين كانوا في القيادة حينها.
ثمة تقييمات انتشرت عن سبب هذا التغير في موقف الحركة الفلسطينية وسعيها لإعادة العلاقات مع النظام، اثنتان منهما على أقل تقدير تستحقان النقاش، مع ضرورة الإشارة إلى أن تغييراً كبيراً لم يطرأ على البنية القيادية في الحركة خلال هذه الفترة
هل تغيرت نظرة حماس للأحداث في سوريا منذ 2011، لصالح تبني سردية النظام وتصديق روايته لما حصل، ودعمه في مواجهة جزء من شعبه أو الثورة/ المعارضة؟ لا يبدو ذلك ولا مؤشرات حقيقية عليه.
في 18 أيلول/ سبتمبر الماضي، نقل موقع Middle East Eye عن مصدر في حماس أن الأخيرة رفضت شرط النظام السوري الاعتذار عن موقفها السابق لإعادة العلاقات. ويدعم ذلك أن الحية ركز في المؤتمر الصحفي في دمشق على دعم سوريا للقضية الفلسطينية والمقاومة وتجنب الحديث في الشأن الداخلي السوري، بينما اكتفى بالحديث عن “طي صفحة الماضي” بخصوص مواقف السنوات السابقة. الأهم، أن الرجل الثاني في الحركة الشيخ صالح العاروري أكد في لقاء مع قناة الأقصى قبل ذلك بأيام أن حركته لا تذهب لسوريا لتأييد النظام في صراعه الداخلي ولا الاصطفاف معه ضد المعارضة، وإنما لأهداف تتعلق بعملها كحركة مقاومة.
هل عادت حماس لدمشق رضوخاً لضغوط من طهران؟ قد يبدو ذلك منطقياً للوهلة الأولى بالنظر لواقع النظام وإمكاناته الحالية، لكن ذلك أيضاً لا تقوم عليه قرائن حقيقية. فقد رممت حماس على مدى السنوات الماضية علاقاتها مع إيران وحزب الله وطورتها بشكل ملحوظ، دون إعادة العلاقات مع الأسد. كما أن نظرة سريعة على ماضي العلاقات بين الجانبين ستظهر أن الحركة قد عارضت داعِمَها العسكري الوحيد في محطات مفصلية، مثل المشاركة في انتخابات 2006 والخروج من سوريا عام 2012 والموقف من حركة “صابرون” في قطاع غزة.
وعليه، فالذي نرجحه هو أن حماس قامت بتقدير موقف لمجمل المتغيرات في العالم والمنطقة وسوريا كذلك على مدى السنوات الفائتة، بما في ذلك موجة التطبيع مع الاحتلال والخطط الإقليمية لمواجهة المقاومة وبعض التطورات المحتملة التي يمكن أن تضر بها كحركة مقاومة. لكن الجزء الأهم من القراءة هو أن حماس قررت التعامل مع الأمر الواقع في سوريا، والذي يقول إن النظام انتصر والثورة هزمت.
حماس في ذهابها لدمشق لا تقرأ فقط المتغيرات العالمية على هامش الحرب الروسية- الأوكرانية والإقليمية المتعلقة بمسار التطبيع، وإنما تستشرف كذلك انفتاح أطراف إضافية على النظام السوري مع مرور الوقت من زاوية التعامل مع الأمر الواقع، وهو ما جعل تبكير قرارها أرجح فائدة لها من تأخيره
أي أن حماس في جزء من قرارها تعترف ضمناً بفشل رهانها على الثورات العربية وخصوصاً المصرية والسورية، ذلك أن قرار الخروج من سوريا لم يبن فقط على الموقف الأخلاقي، على أهميته، وإنما كذلك على قراءة تتوقع انتصار الثورة المصرية ووجود بديل لسوريا لاحتضان الحركة مستقبلاً، وهو التقدير الذي ثبت فشله لاحقاً.
إن حماس في ذهابها لدمشق لا تقرأ فقط المتغيرات العالمية على هامش الحرب الروسية- الأوكرانية والإقليمية المتعلقة بمسار التطبيع، وإنما تستشرف كذلك انفتاح أطراف إضافية على النظام السوري مع مرور الوقت من زاوية التعامل مع الأمر الواقع، وهو ما جعل تبكير قرارها أرجح فائدة لها من تأخيره.
إذن، فحماس في عودتها لدمشق لا تؤيد النظام ولا تزكيه ولا تدعم سرديته في المعادلة الداخلية السورية، وإنما تستقرئ متغيرات العقد الفائت وتستبق متغيرات السنوات القادمة. وهي في ذلك تحاول أن تتجنب الوقوع مرة أخرى في مطب التقدير الخاطئ أو المتسرع أو المتأخر، أي أنها في النهاية تذهب لدمشق معترفة بالهزيمة التي لحقت بالثورات العربية ككل، والتي رأت نفسها جزءاً منها في سنوات خلت تأييداً وتأثراً. وسيبقى التحدي الأكبر أمامها هو مدى قدرتها على تجنب الوقوع في خطأ التدخل في الشأن الداخلي السوري، ولا سيما على صعيد تأييد النظام الذي قد يسعى لذلك.
( عربي 21 )