سمية الغنوشي
أيقظ فوز السعودية المفاجئ على الأرجنتين في بداية كأس العالم مخزونا عميقا من المشاعر القومية المشتركة. حضرت الجماهير العربية إلى المدرجات حاملة أعلامها الوطنية وعلم السعودية، وانتشت بكل هدف سجله منتخب الخضر في شباك الخصم أو نجح في صده عن مرماه.
وتكرر المشهد ذاته في مباراة تونس ضد فرنسا، ثم مع ترشح المغرب للدور الثاني. تلاحمت الجماهير العربية في الدوحة وتوحدت مشاعرها في سائر البلاد العربية والمَهاجر على مناصرة أسود الأطلس وحمّلتهم آمالها في بلوغ منتخب عربي مراحل متقدمة من البطولة.
وكانت فلسطين عنوانا جامعا بينهم، حضرت بمختلف رمزياتها ومعانيها، في رايتها المرفوعة فوق الهامات واسمها الذي تغنت به الأصوات. حين اندفع شاب يتقد نشاطا إلى ساحة الملعب بشاشية حمراء تونسية على رأسه وعلم فلسطيني فوق كتفه، لخص المشهد الطريف أبعاد الانتماء عند العربي: الوطني والقومي، ومنزلة فلسطين في القلب منه.
من أهم الدروس المستشفة من بطولة العالم في قطر أن الرابطة العربية، رغم محاولات التشويش عليها وإضعافها، ما زالت قوة هائلة محركة لوعي العرب ووجدانهم. مشاعر الوحدة والتضامن والشعور بالانتماء المشترك ما زالت حية وفاعلة بينهم، رغم السياسات الانعزالية
من أهم الدروس المستشفة من بطولة العالم في قطر أن الرابطة العربية، رغم محاولات التشويش عليها وإضعافها، ما زالت قوة هائلة محركة لوعي العرب ووجدانهم. مشاعر الوحدة والتضامن والشعور بالانتماء المشترك ما زالت حية وفاعلة بينهم، رغم السياسات الانعزالية لحكومات جعلت شعارها “بلدي أولا”، وطفقت تنشد روابط بديلة: “إبراهيمية”، أو “أوسطية”، أو “متوسطية”، تبين أنها غطاء لإدماج إسرائيل في المنطقة، لا غير.
لا شك أن للمصري أو اليمني أو الجزائري شعورا بالانتماء المحلي، لكن ذلك لا ينفي وجود طبقة أخرى من الانتماء لديه، تختفي حينا وتتبدى حينا: الرابطة العربية، المتداخلة أحيانا كثيرة مع الرابطة الإسلامية.
في المقابلات الرياضية يناصر العربي منتخبه الوطني، فإذا لم يكن طرفا في المنافسة، وقف مساندا المنتخبات العربية على الميدان، يؤازرها بقلب صادق مفعم بمشاعر القربى.
المغاربة والجزائريون في نزاع منذ عقود حول قضية الصحراء الغربية، لكن جمهورهم توحد في تشجيع المغرب.
بين اليمنيين والسعوديين مرارات قديمة وجديدة، لكنهم احتفلوا جنبا إلى جنب بفوز منتخب الخضر وحزنوا لهزيمته.
قد لا نرضى بسياسة الحكم في السعودية لكننا جذلنا لأداء المنتخب السعودي أمام الأرجنتين.
الهوية العربية قوة مختزنة وفاعلة، تحركها الأحداث السياسية والرياضية والثقافية في منعطفات محددة. أحداث فلسطين والقدس مثلا توقظ في النفوس مرارة هائلة وفيضا من مشاعر الحيف والضيم.
وحين اجتاحت الدبابات الأمريكية العراق وسقطت بغداد، حلت الفجيعة في كل بيت عربي، واعتصر أهله الوجع وخيم الحزن.
لم يتأثر الجمهور العربي كثيرا بالخلافات والصراعات البينية، على كثرتها. ظل الناس بحسهم الفطري يفرقون بين ما هو أساسي وما هو ثانوي، ويميزون بين الخلاف السياسي مع هذا النظام أو ذاك وبين واجب النصرة العابر للحدود القُطرية.
ورغم انخراط بعض الأنظمة العربية في التطبيع، بقيت أفئدة شعوبها تخفق لفلسطين وتمقت الاحتلال. حقيقة لا يبدو أن إسرائيل كانت تدركها، حين بعثت بمراسليها إلى الدوحة فصعقوا لما لقوه من نبذ وعزلة بددا أوهام الاتفاقات الإبراهيمية
ورغم انخراط بعض الأنظمة العربية في التطبيع، بقيت أفئدة شعوبها تخفق لفلسطين وتمقت الاحتلال. حقيقة لا يبدو أن إسرائيل كانت تدركها، حين بعثت بمراسليها إلى الدوحة فصعقوا لما لقوه من نبذ وعزلة بددا أوهام الاتفاقات الإبراهيمية.
طبعا، كرة القدم تبقى منافسة رياضية في نهاية المطاف، ولا ينبغي أن نحمل الفوز والهزيمة في الملاعب أكثر مما يستحقان، لكنهما يوقظان في نفوسنا مختزنات غائرة وقيما دفينة وهويات صامتة.
توحد العرب اللغة والثقافة والجغرافيا والهموم والمخاطر المشتركة، وتفرقهم السياسة وعبث النخب.
ابتلوا، دون باقي أمم الإسلام الكبرى فرسا وتركا، بالتشرذم والتجزئة.
من موريتانيا إلى عُمان، يتكلمون لغة واحدة ويتقاسمون فضاء جغرافيا واحدا. على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، يعبد جلهم ربا واحدا ويتجهون لقبلة واحدة. يستمعون إلى نفس الأغاني ويستمتعون بنفس الموسيقى ويقرؤون نفس الكتب. تتعدد لهجاتهم لكنهم يفهمون بعضا كلما اقتربوا من الفصحى، بيسر دون حاجة لترجمان.
واليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات وانسياب حركة البشر والأفكار والبضائع، باتوا يعرفون لهجات بعض وخصوصياتهم في الملبس والمأكل والذوق أكثر من أي وقت مضى.
لكن السياسة الرسمية العربية تسير في اتجاه مغاير تماما.. بدل البناء على المشتركات الجغرافية والتاريخية والثقافية، تبدد النخب أرصدتها الرمزية والروحية وتعبث بها، تمزق أوصال العرب وتقيم بينهم العوازل والحواجز.
الرابطة العربية ليست أيديولوجيا ولا عقيدة سياسية، كما يذهب القوميون العرب، هي صلة تشد العرب في السراء والضراء، وحامل تاريخي لنهضة الإسلام والمسلمين. لا يمكن تصور عالم إسلامي قوي ومؤثر في المعادلات الدولية من دون حضور فاعل للحلقة العربية
يعجز العرب عن إرساء مشروع تعاون سياسي على شاكلة الاتحاد الأوروبي، لكن ما الذي يمنعهم من سنّ سياسة لغوية مشتركة؟ لماذا لا يوحّدون المعاجم والمناهج ويعممون لغة الضاد في التعليم والثقافة والإدارة؟ لماذا لا يعملون على تشبيك الجامعات والمؤسسات التعليمية والمراكز البحثية ويسعون لتنشيط التجارة البينية والمعاملات المالية وترسيخ المنافع المشتركة؟ لا شيء يغل أيديهم، غير شلل الإرادة وعمى البصر والبصيرة.
الرابطة العربية ليست أيديولوجيا ولا عقيدة سياسية، كما يذهب القوميون العرب، هي صلة تشد العرب في السراء والضراء، وحامل تاريخي لنهضة الإسلام والمسلمين. لا يمكن تصور عالم إسلامي قوي ومؤثر في المعادلات الدولية من دون حضور فاعل للحلقة العربية، فالعرب كما يقول ابن خلدون، هم مادة الإسلام ومعدنه.
قد لا تغير كرة القدم من الواقع شيئا، لكنها مرآة عاكسة لهوية الشعوب وتطلعاتها وانكساراتها. فيها يرى الجمهور اليوم وجهه بلا أقنعة ولا أوهام وأكاذيب، ويكتشف الحبل السري الذي يجمعه: العروبة وفلسطين.. فهلا التقطت نخب التيه الرسالة؟ ( عربي 21 )