عماد شقور
إسرائيل دولة «عِجْبة» في كل أطوار حياتها. من مولودة: لقيطة، الى طفلة: مدلّلة، الى مراهقة: مستهترة، الى امرأة: لعوب، الى عجوز: شمطاء.. وشرّيرة أيضاً.
يحدث في دول «العالم الثالث.. عشرة» انقلابات عسكريّة. يخرج «العسكر» من ثكناتهم، ينقضّون على «المدنيّيّين» في بلدهم، ويستولون على الحكم، وعلى مقدّرات البلاد والعباد. في «إسرائيل هذه الأيام»، يذهب «المدنيّون» الى صناديق الاقتراع، ينقضّون على قيادات «العسكر»، ويستولون على الحكم، وعلى مقدّرات البلاد والعباد.
في دول العالم، تولد الدولة، (بفضل قتال ميليشياتها المسلّحة في أغلب الحالات)، وتشكِّل الدولةُ الوليدة جيشاً لها. في هذه «الدولة اللقيطة»، حلّت الميليشيات/العصابات المسلّحة (الهاغانا، البلماح، الإيتسل والليحي) نفسها بعد ستة أيام على إعلان قيام دولتها، وشكّلت، مجتمعة وموحَّدة، جيش احتلال واستعمار، وأسمته «جيش الدّفاع» (!)، وشكّل هذا الجيش «دولة» لتكون هذه «عِجبة» بين دول العالم: فلكلّ دول العالم (باستثناء عدد محدود من الدول، أهمها الفاتيكان وكوستاريكا، وربما تنضمّ فلسطين الى هذه القائمة) جيوش، إلا هذه «اللقيطة» فهي: «جيش له دولة».
هي «عجبة» بأكثر من معنىً واحد: فهي، (إضافة الى ما تقدّم، وهو مُهمٌ جدّاً)، لم تستكمل حتى الآن، (رغم مرور سبعة عقود ونصف العِقد على إعلان قيامها)، الشروط الرسميّة لاستكمال عضويتها في هيئة الأمم المتّحدة، وأبرز هذه الشروط هما: 1ـ قيام دولة فلسطينية عربية وفق قرار التقسيم 181، يوم 29.11.1947؛ و2ـ وضع خارطة (في ملفّ الاعتراف بعضويّتها)، تُبيّن حدودها بالضبط.
في كل المجتمعات البشرية، (وفي أسوأ الحالات: في غالبيتها العُظمى)، يكون العسكريون أكثر حدّة وميلاً الى استخدام القوّة العسكرية من المدنيين. الحالة الإسرائيلية معكوسة هذه الأيام. وأقول «هذه الأيام»، لأن الوضع لم يكن كذلك قبل عقود.
في معارك الحرب الإسرائيلية الفلسطينية، وهي جزء من الحرب الصهيونية العربية المتواصلة منذ أكثر من قرن من الزمن، حقّق جيش الاحتلال والاستعمار الصهيوني انتصارات ساحقة ماحقة في غالبيتها العظمى. لكنها مجرّد معارك في حرب متواصلة، لم يستسلم فيها شعبنا الفلسطيني، ولم تستسلم فيها شعوب أمّتنا العربية الواحدة، (وإن استسلّم و«طبّع» بعض ساكني قصور الحُكْم في بعض دولها، رغم حقيقة أن بعض دُوَلِهم لم تخُض، أصلاً، أيّ واحدة من معارك هذه الحرب المستمرّة). ونجحت هذه «اللقيطة» في صنع «سلام» مع قصور حاكمي دول لم تكن في حالة حرب معها. ولعلّ في ما تشهده ملاعب مونديال قَطَر هذه الأيام، من رفع علَم فلسطين، ما يثبت هذه الحقيقة، ويظهرها بجلاء ووضوح.
بعد مئة سنة من المعارك في حربنا المتواصلة، ورغم انتصارات مذهلة في غالبيتها، حقّقها جيش الاحتلال والاستعمار، اقتنع عسكريّو هذا الجيش، وقادة هذا الجيش بشكل خاص، أن كلّ هذه الانتصارات هي انتصارات عقيمة، لأنها لم تنجح في ترجمة انتصاراتها إلى واقع مقبول وشرعي، والى خاتمة لمعارك كثيرة ومتتالية، تشكّل «حرباً» واستمرّ تصنيفها في خانة «معارك في حرب لم يتم حسمها». إنها انتصارات عاقر. لا تُثمِر. بل إن بعض تلك المعارك التي تم الانتصار فيها، انتهت الى نتيجة عكسيّة.. إلى هزائم سياسية، كما ثبت في النتائج العملية للعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. ومنذ أن استوعب عسكريو إسرائيل محدوديّة القدرة في «المعارك» العسكرية على تحقيق الحسم في «الحرب»، (وخاصة بعد معارك هزيمة حزيران/يونيو 1967، ونذكر في هذا السّياق: «معركة الكرامة» يوم 21.3.1968، وما تلاها من قرار عبد الناصر ببدء معارك «الاستنزاف»، ومروراً بمعارك أكتوبر/تشرين أول 1973، ووصولاً الى اجتياح لبنان وحصار بيروت سنة 1982، الذي قاد الى انطلاق الانتفاضة الفلسطينية المباركة الأولى، سنة 1987، وما أوصل التطوّرات الى مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو)، انقلب الوضع في إسرائيل، وأصبح الجيش الإسرائيلي وقادته، وأبرزهم اسحق رابين، أكثر اعتدالاً (نسبياً) من الغالبية في الشارع المدني اليهودي في إسرائيل، المتمادي في انزياحه نحو التعصّب والشوفينيّة والتّمييز العنصري والفاشيّة.
كل هذا أصبح تاريخاً.
في «إسرائيل هذه الأيام»، يذهب «المدنيّون» الى صناديق الاقتراع، ينقضّون على قيادات «العسكر»، ويستولون على الحكم، وعلى مقدّرات البلاد والعباد
ماذا عن الحاضر؟ وأهم من ذلك: ماذا عن المستقبل؟
حاضر إسرائيل، وتطورات الأوضاع فيها هذه الأيام، لا يبشّر الإسرائيليين بخير: انقسام ومعارك لفظية واستقطابات حادّة. يكفي أن نُجْمِل ما أرى فائدة بإيضاحه في فقرات محدّدة، تخُصّ ما ظهر حتى الآن من نتائج لمحاولات بنيامين نتنياهو تشكيل حكومته السادسة الـ»أولترا» يمينيّة وعنصريّة وفاشيّة. وهي فقرات وملاحظات ذات دلالة:
ـ على الصعيد العسكري المتداخل مع المدني والسياسي: يقول غابي آيزنكوت، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً، وعضوالكنيست البارز في «الكتلة الرسميّة» بقيادة بيني غانتس، رئيس هيئة الأركان الأسبق للجيش الإسرائيلي، ما فحواه ومعناه: «يجب أن تخرج إلى الشارع مظاهرة من مليون مواطن إسرائيلي، وأنا واحد من هذا المليون، ضد هذه السياسة التي تتبناها حكومة نتنياهو قيد التشكيل».
ـ إستر حايوت، رئيسة المحكمة العليا في إسرائيل، قالت يوم الثلاثاء الماضي، تعليقاً على ما تم توقيعه من اتفاقات لتشكيل حكومة نتنياهو المقبلة، وما تضمنته تلك الاتفاقيات من تغييرات في تشكيل اللجان الخاصة في تعيين القُضاة: « إن ولاءنا كقضاة هو للجمهور الإسرائيلي بأسره، (أي ليس لهذه الأغلبية، أو هذا الائتلاف، أو هذه الحكومة، أو تلك)، لكن مهمتنا، كأوصياء على الجمهور بأكمله، لا يمكن أن تتحقق دون المحافظة على استقلال القضاء وعدم تبعيّته».
ـ بعد أقل من 24 ساعة على توقيع نتنياهو، باسم حزب الليكود، مع عضو الكنيست البالغ العنصرية والتطرف، آفي ماعوز، رئيس حزب «نوعَم»، على ضمّه إلى الائتلاف قيد التشكيل، وضمه كنائب وزير في مكتب رئيس الحكومة، وتوليته مسؤوليات في وزارة التعليم، وقّع أكثر من 300 من مدراء المدارس في إسرائيل، وأكثر من ثلث رؤساء البلديات والمجالس المحلية في إسرائيل، بيانات ترفض التعاون مع هذا العنصري الفاشيستي المتطرف، ماعوز.
هذا هو واقع اليوم في إسرائيل على صعيد قيادات الجيش والأمن، (المتقاعدين طبعاً، والذين يملكون حق التحدّث علناً لوسائل الإعلام)، وعلى صعيد القضاء، وعلى الصعيد المدني والتعليمي.
لا سابق لهذا الاستقطاب في إسرائيل.
عندما تبيّنت فظاعات الجرائم الإسرائيلية، ودور أريك شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا يوم 17.9.1982، بعد يوم من مقتل مرشح إسرائيل وعميلها، بشير الجميّل، لرئاسة لبنان، انطلقت في تل أبيب مظاهرة الـ300 ألف إسرائيلي استنكاراً ورفضاً واحتجاجاً، وتم عزل شارون من منصبه وزيراً لـ«الدفاع». ماذا لو انطلقت بعد أيام، (أو أسابيع، أو أشهُر)، ترفض هذه السياسة الإسرائيلية؟
ثم: ما العمل؟
أقول، (قبل اعتراض أو استهجان أيٍّ كان): كلّ تعميم خاطئ. فإسرائيل ليست سبعة ملايين يهودي نسخة من نتنياهو، أو بن غوريون، أو بن غفير، أو سموتريتش، أو غيرهم. إنهم مجتمع متعدد الانتماءات والقناعات والمواقف. وبينهم ألوف وعشرات ألوف، بل وملايين يهود مستنيرين وليبراليين، يمكن لغالبية عظمى بين مليوني فلسطيني عربي، (ممّن يحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية)، العثور على نقاط تلاقٍ، وبناء تحالفات سياسية معهم، وتشكيل أحزاب سياسية وقوائم انتخابات، لتشكيل حكومات تخدم المصالح والحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني.
هذا هو واجبهم. هذه هي مهمّتهم. هذا هو دورهم. هذه هي المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا.
( القدس العربي )