قضى محمد شحاتة نهاية صيف 2022 في جمع محصول الذرة من أرضه، بقرية الصفتي في محافظة كفر الشيخ، وحده. في الأعوام الماضية، كان ابنه الأكبر، عيد، يعمل إلى جواره، ولكن لم يحدث ذلك هذا العام.
قبل عام، ذهب عيد إلى مدرسته في أول أيام الدراسة، وبعد ساعات، تلقى والده مكالمة من مدرس، أخبره أن عيد نُقل إلى المستشفى بعد خناقة مع زملائه على مقاعد الفصل.
وُضع عيد في العناية المركزة أربعة أيام ثم توفي، وخرجت قرية الصفتي بأكملها لتوديعه، لكن لم تتوقف القصة عند الجنازة.
بحسب رواية والده، التي جمعها من زملاء عيد؛ في اليوم الدراسي الأول، سادت حالة من الفوضى في مدرسة «زراعة ميت علوان» بعد طابور الصباح. تسابق عيد مع زملائه نحو الفصل من أجل اللحاق بالتختة الأولى، تشاجروا وتركهم عيد إلى الصف الأخير، وعندما امتلأت مقاعد الفصل، توجه نحوه بعض زملائه ممن لم يجدوا لأنفسهم مقاعد، واندلعت بينهم مشاجرة انتهت بوفاته.
أحالت النيابة ثلاثة من زملاء عيد إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل، وأوقف المحافظ المدرس المتغيب عن الفصل وقت الحادث عن العمل، وخلال التحقيقات تم حبس الطلاب احتياطيًا في مؤسسة الأحداث. لكن بعد أشهر برأت محكمة الجنايات الأطفال الثلاثة، مستندة على تقرير الطب الشرعي الذي لم يستطع الجزم إن كان سبب الوفاة «الانفعال الزائد أثناء المشاجرة أو ضرب زملائه له». عاد المدرس أيضًا إلى عمله.
ينتظر علي الشافعي، محامي أسرة عيد، غلق تلك القضية لتقديم دعوى ضد المدرسة ووزارة التربية والتعليم. يقول الشافعي: «حق عيد عند وزارة التربية والتعليم والمدرسة. إحنا كنا في أول يوم دراسة، ومع ذلك، كان الفصل متروكًا دون مدرس يتدخل لفض المشاجرة. وجود المدرس أو مشرف الدور كان بالتأكيد هيمنع الخناقات».
لم يكن عيد الطفل الوحيد الذي توفي العام الماضي في مشاجرات على مقاعد الفصول. توفي أيضًا الطفل ياسر، الطالب في الصف السادس الابتدائي بمدرسة الحي الحادي عشر بمدينة 6 أكتوبر بمحافظة الجيزة، بعد مشاجرة مع زملائه على الجلوس في «مقاعد الفصل».
مع بداية العام الدراسي الحالي، تكررت حوادث العنف خلال أول ثلاثة أيام، بحسب أشرف أمين، عضو لجنة التعليم في مجلس النواب، ورصدت لجنة التعليم 57 حالة عنف في المدارس الحكومية.
تعكس تلك المشاجرات أزمة كثافة الطلاب التي لا تتناسب مع عدد المدرسين وعدد وحجم الفصول في المدارس الحكومية، بحسب محب عبود، وكيل نقابة المعلمين المستقلة.
تفاقم عجز المدرسين في المدارس الحكومية حتى بلغ 320 ألف مدرس عام 2019، بحسب وزير التعليم السابق طارق شوقي، وخاصة بعد إلغاء الحكومة تكليف المعلمين عام 1998، ثم إلغاء تعيين المدرسين نهائيًا عام 2015.
ويقول عبود إن معدل المدرسين للطلاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المتوسط 19 طالبًا لكل مدرس، وفي أوروبا وآسيا الوسطى وأمريكا الشمالية 15 طالبًا لكل مدرس، ولكن في مصر تصل النسبة إلى 33.41 طالبًا لكل مدرس.
أما بالنسبة للفصول، فيقول عبود إن «الكثافة تصل لـ52 طالبًا في فصول محافظة الجيزة، التي توفي فيها الطفل ياسر، وإلى 46 طالبًا في فصول محافظة كفر الشيخ التي توفي فيها عيد. وهناك فصول في هاتين المحافظتين يصل فيها عدد الطلاب إلى 70 و80 طالبًا»، في حين أن «كثافة الفصل الواحد يجب ألا تتعدى 30 طالبًا في المراحل الابتدائية والإعدادية». ووفقًا لهيئة الأبنية التعليمية، متوسط مساحة الفصل الواحد هي 40 متر مربع (المثالي أن يكون لكل طالب أكثر بقليل من متر داخل الفصل).
بعد موت عيد، امتنع أهالي القرية عن إرسال أولادهم إلى مدرسة «زراعة ميت علوان». «مكناش عاوزين أولادنا يموتوا زيه»، يقول مهدي سليم، 60 عامًا، عم محمد شحاتة. طالب الأهالي ببناء مدرسة جديدة ولكن وزارة التربية والتعليم لم تستجب.
خرج الأهالي من منازلهم رجالًا ونساءً وقطعوا الطريق الواصل بين قرى بندر كفر الشيخ، ومنعوا مرور السيارات، بحسب سليم، حتى جاءت الشرطة وفضت التجمع. زارهم في اليوم التالي المحافظ ووافق على بناء مدرسة جديدة شرط أن يوفّر الأهالي الأرض، وهي عقبة تجدها وزارة التربية والتعليم حائلًا أمام بناء مدارس جديدة في الأحياء والقرى ذات الكثافات العالية في الفصول الدراسية. بحسب تصريحات محمد جلال، ممثل وزارة التربية والتعليم، خلال جلسة مناقشة ميزانية التعليم في مجلس النواب في أبريل الماضي: «نواجه مشكلة توافر أراضي لبناء مدارس في المحافظات التي تشهد كثافة سكانية كبيرة».
كانت رحلة بحث الأهالي عن أرض لبناء المدرسة صعبة، لأن بحسب سليم «صعب تلاقي فلاح قادر يستغنى عن أرضه. وحتى من وافق منهم، بالغ في تقدير قيمتها». بعد أيام من البحث، قرر الحاج حمدي الصفتي، أحد ملاك الأراضي في القرية، بيع 13 قيراطًا للأهالي من أرضه والتبرع لهم بقيراطين آخرين. اجتمع الأهالي وقرروا تقسيم ثمن شراء الأرض بـ1500 جنيه من كل شخص متزوج يسكن القرية، وكانت الحصيلة 750 ألف جنيه. انتخبوا الصيدلي عادل السعيد، أحد أبناء القرية، لإنهاء الإجراءات أمام الجهات الحكومية. كان السعيد الأكثر حماسًا بينهم للمشروع، فقد اضطر أن يترك قريته وينتقل إلى وسط مدينة كفر الشيخ لرفضه أن يتعلم أولاده وسط مناخ العنف الذي يحيط بالطلاب في مدرسة ميت علوان.
على مدار تسعة أشهر، لف السعيد «كعب داير» حسب وصفه، على مكاتب هيئة الأبنية التعليمية ومجلس المدينة ومبنى المحافظة، دون جدوى. يقول السعيد أن هيئة الأبنية التعليمية رفضت في البداية بناء المدرسة على تلك الأرض بحجة أن الطريق المؤدي لها لا بد ألا يقل عرضه عن ستة أمتار. سارع السعيد وجمع من أصحاب الأرض المتاخمة للطريق تنازلات عن جزءٍ من أراضيهم. يقول: «تبرع كل واحد بثلاثة أمتار من أرضه لتوسعة الطريق». ولكن مرة أخرى، رفضت هيئة الأبنية التعليمية السماح ببناء مدرسة قبل الحصول «جواب موقَّع من مجلس المدينة يتعهد فيه بتوصيل المرافق للمدرسة في حالة تقرر بنائها». يقول السعيد إن المهندس المسؤول قال له: «أنا مش هبني مدرسة تكلفني 4 مليون جنيه، وكمان هوصلها مرافق بـ8 مليون جنيه. لازم مجلس المدينة يتعهد بتوصيل المرافق أولًا».
يؤكد المهندس محمد سلامة، مدير فرع الأبنية التعليمية في كفر الشيخ، لـ«مدى مصر»، أن إجراءات تخصيص قطعة أرض لبناء مدرسة تمر عبر لجنة مشكلة من ممثل لوزارة التربية والتعليم وممثل من هيئة الأبنية وممثل من مجلس المدينة وممثل من الأملاك. يضيف: «كل واحد يبدي رأيه. التعليم مثلًا تقول إن في احتياج لبناء مدرسة، والأبنية تعاين قطعة الأرض وتشوف أنها صالحة، وكمان بطلب من مجلس المدينة تعبيد الطريق وتوسيعه وتوصيل المرافق. دون ذلك لا نبدأ في إجراءات البناء. المشكلة مش عندي. لما مجلس المدينة يعمل الطريق ويوصل المرافق لقطعة الأرض ساعتها أبني المدرسة».
كما يزعم سلامة أن عدد المدارس في محافظة كفر الشيخ كافٍ، ولا تحتاج لبناء مدارس جديدة، ويحيل أزمة الكثافة في الفصول إلى عدم وجود عدالة في توزيع الطلاب على المدارس: «كل واحد عايز ابنه يتعلم في مدرسة جنب البيت. فيه مدارس فيها 80 طالبًا في الفصل وفي مدارس فاضية». ويقول سلامة إن إدارة الأبنية انتهت من 100 مدرسة في محافظة كفر الشيخ خلال العام 2021/2022، ما بين توسعات وإحالات جزئية وتعْليّات لمباني بعض المدارس وإضافة مدارس جديدة، وبسؤاله عن عدد المدارس الجديدة أجاب: «مش فاكر فيهم كام مدرسة جديدة».
رفض مسؤول مجلس المدينة التوقيع على إقرار الالتزام بتوصيل المرافق. وفي اتصال مع «مدى مصر»، ألقى بالمسؤولية على المهندس المسؤول في هيئة الأبنية التعليمية واتهمه بالتعنت. وفي مواجهة مهندس الأبنية التعليمية بالمثل، رد سلامة بوصف موقف مسؤول مجلس المدينة بالتعنت أيضًا. وأمام الاتهامات المتبادلة من الجهتين توقف مشروع بناء المدرسة. وقرر بعض سكان القرية نقل أولادهم من مدرسة «زراعة ميت علون» لمدرسة أخرى تبعد عشرات الأميال عن مسكنهم، بينما اضطر آخرون نقل مسكنهم من القرية إلى مدينة كفر الشيخ للبحث عن فرصة أفضل لتعليم أولادهم وسط كثافة وتكدس أقل نسبيًا، مثل السعيد.
كان المحامي علاء إبراهيم يصطحب ابنته إلى أول يوم دراسي لها بالصف الأول الابتدائي بقرية الحسانين بمحافظة الجيزة، وفوجئ بأن عدد الطلاب داخل الفصل الواحد يصل إلى 80 طالبًا.
انتظر إبراهيم التزام الحكومة بنسبة الإنفاق على التعليم سنة بعد أخرى لتحسين جودة التعليم من حيث تقليل كثافة الطلبة. «كنت متوقع مع بداية 2016 [عام إدراج الإنفاق على التعليم في الميزانية بنسبة 4% من الناتج المحلي] وانتهاء المدة اللي أتاحها الدستور للحكومة، إنها تلتزم». ولكن في العام 2020 ومع وصول ابنته للصف الثاني الإعدادي، وجد أن الانتظار قد طال، والحكومة لا تفي، فقرر أن يلقي حجرًا ربما يحرك المياه الراكدة.
أقام دعوى أمام محكمة القضاء الإداري يطعن فيها على قرار الحكومة السلبي بعدم الالتزام بالنسبة المخصصة دستوريًا، طالب فيها إلزام محامي الدولة بتقديم صورة من الحساب الختامي لقطاع التعليم للسنوات من عام 2016 وحتى عام 2021، وذلك من الجهاز المركزي للمحاسبات ووزارة المالية، وصورة من تقرير لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب والخاص بموازنة العام المالي 2016-2017.
ولكن محامي الدولة رفض ذلك، ودفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى إعمالًا لمبدأ الفصل بين السلطات، كون الإشراف على ميزانية التعليم شأن خاص بالبرلمان.
طالب محامي الدولة برفض الدعوى، وادعى أن إبراهيم ليس له صفة لرفعها، وقضية رفع نسبة الإنفاق على التعليم غير مؤثرة تأثيرًا مباشرًا في مصلحته الشخصية. يضحك إبراهيم عندما يسرد حجة محامي الدولة. «أنا بنتي زيها زي زمايلها متضررين من كثافة الطلاب في الفصول، وقلة عدد المدرسين. مين اللي المفروض يكون ليه صفة غيري؟ أنا بدفع ضرائب ومن حقي أحصل على خدمة تعليمية جيدة لأولادي»، يقول إبراهيم. ويضيف: «كل اللي كنت عاوزه من القضية إني أقول للمُشرع إن فيه دستور يجب الالتزام به، وأقول للحكومة إن المفروض تزودي الإنفاق على التعليم، ونقول لصناع القرار إن مفيش دولة في العالم تقدمت دون تطوير التعليم. فيه تأثير سلبي لتكدس الطلبة داخل الفصول على استيعابهم للمواد الدراسية، وقدرتهم على تحصيل المعلومات، غير حوادث العنف اللي بنشوفها».
عندما أقيمت الدعوى أمام محكمة القضاء الإداري ضد رئيس الجمهورية والحكومة ورئيس مجلس النواب للالتزام بتطبيق النسبة المقررة دستوريًا بالإنفاق على التعليم، كونه «أول دستور يلزم الحكومة بنسبة محددة في الإنفاق على التعليم»، رفضت محكمة القضاء الإداري الدعوى، لعدم الاختصاص ولائيًا بنظرها، كما لم تحدد محكمة أخرى.
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قال في أكتوبر 2016 خلال المؤتمر الوطني الأول للشباب، إن بعض الدول وضعت التعليم أولوية أولى، ولكن المصريين لن يتحملوا وضع كل موارد الدولة لذلك، وإن المشروعات القومية التي تتبناها الدولة أدرت دخلًا على الأسر الفقيرة والعمال من أصحاب التعليم المتوسط، وإن موارد الدولة حتى لو حشدت كلها للتعليم فهي قليلة، وإن الأزمة الحقيقية والسبب في تدهور التعليم هو النمو المتسارع للسكان.
هناك عدم توازن بين بناء المدارس والازدياد السكاني سببه الإنفاق المنخفض على التعليم. لمعالجة مشكلة نقص الفصول، تحتاج وزارة التربية والتعليم لـ120 مليار جنيه لبناء 250 ألف فصل جديد، بحسب بيان أصدره وزير التعليم السابق، طارق شوقي. طالبت هيئة الأبنية التعليمية من الحكومة خلال إقرار الموازنة الجديدة، أبريل الماضي، زيادة موازنتها لعام 2023 إلى 17 مليار جنيه، لكن الحكومة رفضت واكتفت بتخصيص 15.4 مليار فقط.
بشكل عام، لا تلتزم الحكومة بالحد الأدنى الذي حددته المادة 19 من الدستور بـ4% من الناتج المحلي. من واقع البيان التحليلي للموازنة العامة، تقل نسبة الإنفاق الفعلي عن 2%.
في المقابل، تزعم الحكومة التزامها بالنسبة الدستورية في الإنفاق على التعليم. أوردت في البيان المالي للموازنة هذا العام (2022-2023) أن ميزانية التعليم الجديدة استوفت النسبة الدستورية في الإنفاق على التعليم ما قبل الجامعي، حيث بلغت 317 مليار جنيه، تمثل 4.01% من الناتج المحلي للعام الماضي، البالغ 7.9 تريليون جنيه.
ولكن، في البيان التحليلي لنفس الموازنة، يظهر الإنفاق على التعليم ما قبل الجامعي 131 مليار جنيه، أي 1.6% فقط من إجمالي الناتج المحلي. الفارق بين الرقمين يكشفه تقرير الموارد البشرية الصادر عن وزارة التخطيط عام 2021، إذ قسمت الحكومة الإنفاق على التعليم قبل الجامعي إلى قسمين؛ الأول: أسمته الإنفاق الوظيفي، وهو الإنفاق الفعلي في موازنة وزارة التربية والتعليم لبناء مدارس وفصول ودفع رواتب المعلمين وشراء سلع وغيرها. والثاني: أسمته مخصصات البنود الأخرى ذات الصلة، والتي تشمل، بحسب تعريف لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، نسبة من بند خدمة الدين وفوائد القروض، وجزء من البنية التحتية مثل خدمات توصيل الإنارة والتليفونات والصرف الصحي للمدارس، والتي يتعين أن يدرج الصرف فيها من ميزانية المحليات، ونقل ميزانية المعاهد الأزهرية من باب الشؤون الدينية إلى باب التعليم، وبذلك، تكتمل نسبة الإنفاق إلى 4%.
عندما عرضت «مدى مصر» تلك الأرقام على سعيد صديق، المشرف على قطاع الموازنة بوزارة التربية والتعليم، والمقدرة بـ131 مليار جنيه، ومقارنتها بالنسبة المقررة في الدستور، رد قائلًا: «ده الرقم المعلن. وعلى المستوى الاقتصادي مش كل حاجة بتعلن»، وسأل مستنكرًا: «هل كل حاجة تقدر تتكلم فيها مع ابنك الصغير؟ فيه حاجات بتعلن وفيه حاجات لا تعلن لمقتضيات الأمن القومي. وهذا يعني أن فيه بنود في ميزانية التعليم غير معلنة، وبإضافة تلك البنود بنقدر نحقق النسبة الدستورية».
( المصدر : مدى مصر )