عبدالعظيم حماد
في مناسبات يصعب تذكر تعدادها، وفي محافل يصعب أيضًا حصرها، دخلت أو ساهمت في مناقشات مع كتاب ومفكرين وأصدقاء وأقارب، وبالطبع مع متفاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي حول جدوى معارضتهم للوضع السياسي الحالي في البلاد، من منازلهم، أو الاكتفاء بإبداء آرائهم على صفحاتهم على مختلف التطبيقات الإلكترونية، وذلك في الوقت الذي يوجد فيه هامش شرعي -وإن لم يكن عريضًا- للمعارضة المنهجية أو المؤسسية من خلال الأحزاب التي تصنف نفسها كأحزاب معارضة للسياسات الرسمية. وكنت دائمًا أتساءل في تلك المناقشات: لماذا وأنتم على هذه الدرجة الرفيعة من الوعي لا تدركون أن القدر الأكبر من تحفظاتكم على هذه الأحزاب سببه عزوفكم وعزوف أمثالكم عن الانخراط فيها لتقويتها وتصحيح مساراتها؟
من الواضح إذن أنني لا أتحدث هنا عمن نسميهم بحزب الكنبة، أو الأغلبية الصامتة، ولكن عن فئة عريضة مهتمة بالمشاركة السياسية، ولكن في أدنى درجاتها، أي بالرأي الفردي حيث يتاح لإبدائه سبيلًا، إما في مقال أو في منشور على فيسبوك، أو في جلسة خاصة، أو في شكل مقاطعة الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية مثلًا.
ويدخل ضمن هذه الفئة عشرات المنابر والمنصات الكبيرة والصغيرة في الفضاء الإلكتروني، التي يقدم بعضها أداء بالغ الرقي والعمق.
من المناسبات التي شهدت ذلك النوع من المناقشات بيني وبين أولئك المعارضين من منازلهم -مع كل الاحترام الشخصي لهم- قبول بعض أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية المشاركة في ائتلاف انتخابي مع أحزاب الموالاة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لمجلسي النواب والشيوخ. ومن تلك المناسبات أيضًا ترحيب الحركة المدنية الديمقراطية بالدعوة الرئاسية للحوار الوطني، وانخراط هذه الحركة في جهود بدء هذا الحوار. وكان أحدث هذه المناسبات هو الترحيب من جانب قيادات في الحركة بقرار العفو الرئاسي عن الناشط زياد العليمي، مع توجيه الشكر (الواجب بروتوكوليًا) لرئيس الجمهورية مصحوبًا بالمطالبة بالإفراج عن جميع سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا ممن لم يستخدموا عنفًا أو هددوا به أو حرضوا عليه.
لم يكن همي الأول في المناقشة هو الدفاع عن الحركة المدنية الديمقراطية وأحزابها، بالرغم من انتمائي لها، وبالرغم من تمثيلي لها مع زملاء آخرين في مجلس أمناء الحوار الوطني. كذلك لم تكن حجتي في الأخذ والرد هي المطالبة بتقديم البديل، باعتبار أن مثل هذه المطالبة في الظروف الحالية ربما تفسر على أنها تعجيز للطرف الآخر في النقاش، أو تفسر على أنها تبرير لما يراه هذا الطرف الآخر تنازلات مجانية من جانب المعارضة لتجميل وجه النظام، أو حسن نية يتسم بالسذاجة، وربما انتهازية للحصول على مكاسب رخيصة. ولكن كانت حجتي -وأنا أتحدث هنا نيابة عن كل أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية- هي أنه ليس من حقك أن تنتقدني إذا حاولت توسيع دوري المعارض ولو بشبر واحد في ظل معطيات قائمة لا أستطيع أنا ولا أنت تغييرها في مدى منظور، وذلك لأني لا أطالبك بتقديم بديل، أو بعمل يحقق رؤيتك، خاصة أني لا أختلف معك كثيرًا في تشخيص الحالة في مجملها، وأنني لست واهمًا أن المشاركة الانتخابية المحدودة سوف تغير المعادلة السياسية القائمة.
ولست مبالغًا في توقعاتي من الحوار الوطني، كما أني لست غافلًا عن الأهداف التكتيكية والاستراتيجية للسلطة من إتاحة هذا القدر المحدود جدًا من المشاركة. هذه الفرصة غير مضمونة النتائج للحوار السياسي مع المعارضة، ولكن بالضبط فهذه التكتيكات الحكومية توفر مساحة ما لتوسيع دوري السياسي، فضلًا عن أن خروج سياسي واحد من السجن هو بالمعنى الإنساني مكسب كبير وكبير جدًا، في ضوء ما يتردد عن تعنت نحو أسماء بعينها. وبالطبع لست مغمض العينين عن حالات القبض على مواطنين جدد وغيرها من الممارسات التي لا تتفق مع منطق الحوار، ولكن هذا أيضًا يثار ويتابع من جانبنا، فضلًا عن أن قضيتنا الأولي في هذه النقطة بالتحديد هي تعديل قانون الحبس الاحتياطي الحالي باعتباره أصل ومصدر هذه الممارسات المؤلمة.
لكن تلك الحجة أو الحجج المترابطة ليست هي بيت القصيد في هذا المقال ولا في مناقشاتي مع المعارضين من منازلهم. وإنما بيت القصيد هو -كما ألمحت في البداية- عزوفهم عن العمل السياسي بمفهومه التنظيمي، من خلال أحزاب المعارضة القائمة، أو من خلال أحزاب يؤسسونها هم وفق رؤاهم. إذ ليس من المعقول أن التنظيمات الحزبية المعارضة القائمة حاليًا لا تشمل حزبًا واحدًا أو اثنين يتوافقان مع رؤية نسبة كبيرة من أولئك المعارضين من المنازل، خصوصًا وأن بينها أحزاب يسارية وأحزاب ليبرالية وأخرى محافظة. وهنا، فإن أبجديات العمل السياسي تنص على استحالة التطابق بنسبة 100% بين كل عضو والرؤية النهائية أو البرنامج السياسي للحزب الذي ينتمي إليه. ففي كل حزب توجد أجنحة كوضع طبيعي، ويوجد داخل الجناح الواحد معتدلون وراديكاليون ووسطيون. وكثيرًا ما توجد منافسات فردية وشخصية وفئوية، وتبقى العبرة هي دائمًا بالاتجاه الرئيسي، والتوافق بالطرق الديمقراطية.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه الأحزاب في أمس الحاجة إلي كوادر قيادية وشبكة عضوية واسعة لضمان القاعدة الجماهيرية المؤثرة ولتلافي أوجه القصور في التمويل والاتصال، وأخيرًا لإحراز الوزن السياسي الذي يعتد به في الدولة وفي المجتمع.
وكان آخر ما في جعبتي ردًا على انتقادات المعارضين من منازلهم هو السؤال التالي: هل أنتم مقتنعون بأن رؤاكم الإصلاحية أو الراديكالية يمكن أن تتحقق دون روافع تنظيمية ومن غير حواضن جماهيرية؟ خاصة وأنتم جميعًا متفقون على أن أهم أسباب فشل ثورة يناير هو انعدام هذه الحواضن وتلك الروافع.
ما زلت وسأبقى في انتظار الإجابة.
( مدى مصر )