محمد أبو الفضل
قدمت وثائق بريطانية كشفت عنها هيئة الإذاعة البريطانية أخيرا دليلا يمكن من خلاله فهم أسباب إصرار إثيوبيا على موقفها في سد النهضة، ولماذا أخفقت مصر في تمرير رؤيتها على مدار سنوات من المفاوضات المتقطعة، فلم يكن هدف أديس أبابا التنمية كما كانت تعلن في خطابها المعلن، بل الرغبة في إعادة تقاسم مياه نهر النيل، ورفض الاتفاقيات التاريخية السابقة، وهما نقطتان تمسكت القاهرة بعدم المساس بهما.
مضى نحو أسبوع على كشف “بي.بي.سي” لهذه الوثائق التي تعود إلى منتصف كانون الأول/ديسمبر 1992، ولم تبد القاهرة تفاعلا رسميا معها بما يعزز الاستنتاج السابق، أن أديس أبابا ليست جادة في التوصل إلى اتفاق ملزم مع دولتي المصب، مصر والسودان.
نشرت “بي.بي.سي” مشاهد من مؤتمر نظمته كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (سواس) في جامعة لندن لمناقشة ملف المياه في الشرق الأوسط، بحضور مسؤولين كبار في إثيوبيا رفضوا بناء مشروعات تنموية أكثر جدوى على أنهار أخرى بعيدا عن النيل الأزرق، الذي يمثل الرافد الرئيسي للمياه (80 في المئة) في نهر النيل.
أكد هذا الرفض الهدف الحقيقي للمضي قدما في بناء مشروع سد النهضة، بلا اعتداد باعتراضات مصر والسودان في مسألة تغيير المعادلة التاريخية، التي يتمسك بها البلدان، وتحولت إلى محور رئيسي، وربما وحيد، في المفاوضات مع الجانب الإثيوبي، مع جعل جميع المحادثات التي جرت عبر وساطات إقليمية ودولية تتحطم.
هل مطلوب من مصر أن تغير تقديراتها وتتعامل مع الأمر وفقا للمقتضيات الإثيوبية والدولية لتحسين موقفها الفترة المقبلة؟
تستطيع الحكومة المصرية أن تستفيد من الوثائق البريطانية لتعزيز موقفها (إذا استؤنفت المفاوضات)، دون أن تتجاهل توصية حوتها الوثائق بشأن اقتناعها بأن الحقوق المكتسبة ليست مقدسة، ما يعني أنه عليها أن تبدي مرونة أكبر في تفهم المطالب الإثيوبية.
قد لا تضيف الوثائق جديدا للمتابعين لملف الأزمة وتعقيداتها على مدار السنوات الماضية، لكنها تفسر بجلاء أسباب عناد إثيوبيا وتشبثها بموقفها الصارم، وعدم قدرة مصر على القيام بتغيير في رؤية أديس أبابا، ولماذا لم تتمكن وساطات متباينة من إحداث اختراق يؤدي إلى تسوية مقبولة من الجانبين؟
تشير النتيجة التي وصل إليها سد النهضة بعد ثلاث مراحل من ملء خزانه واقترابه من الانتهاء، إلى عدم وجود أضرار ملموسة بمياه مصر حتى الآن، كشرط وضع للتحرك باتجاه الخشونة لحسم الموقف، وما وصف بـ”الخط الأحمر”، ما يعني أن إثيوبيا لم يكن في حسبانها إحداث الضرر بقدر ما كانت تريد تغيير الواقع الموروث.
عندما رهنت القاهرة تحركها بوقوع الضرر، خسرت جزءا مهما من معركتها المصيرية، ومنحت أديس أبابا حجة عملية للاستمرار في مخططها، وما اعتبرته دوائر مصرية فشلا إثيوبيّا في تخزين الحصص المعلنة لمراحل الملء السابقة كان مقصودا؛ لأنها حققت هدفها الخاص بالإرادة المنفردة في تحديد مصير النيل الأزرق.
ربما يكون الخطاب المصري انتبه متأخرا، لكنه لم يتمكن من التغيير والتصحيح، ووجدت قوى إقليمية ودولية عديدة في الشرط المصري (وقوع الضرر) ارتياحا يجنبها الحرج للضغط على إثيوبيا التي أعفتها منه عن قصد، فالرمزية التي يحويها سد النهضة أكبر من مشروع محلي، إذ يرسخ مفاهيم دولية في الإرادة المنفردة للتحكم في الأنهار، وينزع ورقة التوت عن اتفاقيات تاريخية تتمسك بها بعض الدول.
يبدو الكشف عن الوثائق البريطانية ليس صدفة، فهو إشارة للتباحث على القاعدة التي ينطوي عليها وتتعلق بالمساس بالثوابت، وأن قوانين الأنهار قابلة للتطور وفقا للواقع وليس للتاريخ، والحل الوحيد المتاح للدول المتنازعة يقوم على التفاهم وليس الصراع.
تتمسك مصر بموقفها السابق، وتردد في الكثير من اللقاءات خطابها الخاص باستئناف المفاوضات والتوصل إلى اتفاق ملزم، الذي أكدت الوثائق البريطانية أن إثيوبيا لن تستجيب له، ويصعب وجود ضغوط خارجية يمكن أن تمارس عليها لتغيير قناعتها.
هل مطلوب من مصر أن تغير تقديراتها وتتعامل مع الأمر وفقا للمقتضيات الإثيوبية والدولية لتحسين موقفها الفترة المقبلة؟
تميل الطريقة العملية التي تدير بها القاهرة ملف مياه نهر النيل إلى التسليم بالأمر الواقع، بعد أن أصبح سد النهضة حقيقة، لذلك شرعت في إعادة توظيف المياه المهدورة لديها، وتحسين كفاءة الترع والمصارف المنبثقة من النيل، والتقدم في مشروعات تكرير وتحلية المياه، واتخذت الكثير من السياسات التي تؤكد أن هناك أزمة مياه في البلاد من الواجب حلها، بعيدا عن تعظيم الاستفادة المباشرة من نهر النيل.
تظل مشكلة نهر النيل في مصر أكبر من مياه قد تنقص في المستقبل، فهي معركة إرادة دخلتها إثيوبيا وهي تعرف هدفها جيدا، واستخدمت كل الوسائل التي تساعدها في الوصول إليه، دون أن تفطن القاهرة لذلك مبكرا، مستفيدة من ظروف الارتباك التي مرت بها في ظل اندلاع ثورتين في البلاد خلال الفترة من 2011 إلى 2013، وحاجة النظام المصري الجديد إلى وقت لترتيب أوراقه.
عندما تمكن من ذلك وجد نفسه أمام واقع يصعب تغييره بالأدوات التقليدية، بعد أن فشلت الوسائل الدبلوماسية في إجبار المفاوض الإثيوبي على القبول بكل المقاربات، وكان يحدث تعديل حولها من وقت إلى آخر، لكنها بقيت تدور في فلك الحقوق التاريخية المرفوضة تماما من قبل أديس أبابا.
يُفسر الصمت المصري على الوثائق، من زاويتين، إحداهما أنها تحمل إدانة ضمنية لمن تولوا مسؤولية المفاوضات السنوات الماضية؛ لأنهم لم يفطنوا للهدف الإثيوبي منها أو يستوعبوا أسباب الهروب الدائم من الوصول لنقطة الاتفاق الملزم، والآخر التمسك بخطة غير منتجة لم تمكن القاهرة من تحويل الدفة لصالحها، في وقت بدت فيه الحكومة الإثيوبية ضعيفة ومهددة في ظل ما واجهته من أزمات داخلية مستعصية، وصلت إلى حد الحرب الأهلية في إقليم تيغراي.
يقود مضي إثيوبيا في السيناريو الذي رسمته وتمكنها من فرض إرادتها إلى الهدف الخفي من وراء تغيير المعادلة التاريخية في ملف تقاسم المياه، والخاصة بتسعير مياه النيل، وهي النقطة التي كان الحديث حولها يتم همسا أو في ندوات أكاديمية، وبعد نشر الوثائق البريطانية، يمكن أن يأخذ اتجاها صريحا إذا لم تتمكن مصر والسودان من صياغة رؤية لإقناع إثيوبيا بأن هذه المسألة من المستحيل القبول بها.
يحتاج تفكيك هذه المسألة جهدا أكبر واستراتيجية محكمة لا تقارن بالآليات التي استخدمت سابقا؛ لأن الخطر بات داهما ومكلفا، كي لا تفاجأ القاهرة والخرطوم أنهما أمام مطالبة أديس أبابا بجعل المياه سلعة تباع وتشترى، ويتحول الخيال إلى حقيقة.
( العرب اللندنية )