يهاجر مختصون في تكنولوجيا المعلومات والفن والثقافة من روسيا، ضمن أكبر موجة لنزف العقول في مختلف المجالات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، في ظاهرة متنامية منذ بداية الحرب على أوكرانيا، لتفقد البلاد رأس مالها البشري.
– تحرك الثلاثيني الروسي، ميخائيل فيلينكوف باتجاه الحدود مع جورجيا بعد استشعاره خطر التجنيد في أعقاب إعلان التعبئة الجزئية في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي مثل العديد من رفاقه، الذين قد لا يعودون من أوكرانيا أحياءً في حال ذهابهم إلى جبهة القتال، في ظل إعلان وزارة الدفاع الروسية مقتل 5937 عسكرياً روسياً في نهاية سبتمبر الماضي، ولا يحصي العدد السابق من كانوا في صفوف قوات “جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك” الشعبيتين المعلنتين من طرف واحد وعناصر شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة، كما يقول.
و”سافر مئات آلاف الروس بما يشكل أكبر عملية لنزف العقول منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991″، بحسب دراسة أجراها برنامج “بونارس أوراسيا” الذي يتخذ من معهد الدراسات الأوروبية والروسية والأوراسية بجامعة جورج واشنطن مقراً له، ويضم أكثر من 140 أكاديمياً متخصصاً في الشؤون الروسية والأوراسية.
ويؤدي خروج العمالة المؤهلة والأشخاص المتعلمين إلى خسارة موسكو لرأس المال البشري. ويكشف استطلاع أجري في إطار الدراسة، أن 45.4 في المائة من المستطلَعة آراؤهم، كانوا يعملون في قطاع تكنولوجيا المعلومات، و15.8 و15.7 في المائة على التوالي من العاملين في وظائف مكتبية والمجال الفني والثقافي.
يروي فيلينكوف تجربة خروجه من روسيا، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “منذ عام 2014، كنت أفكر في السفر من دون أن أخطط له بشكل محدد، وجاء إعلان التعبئة الجزئية ليدفعني باتجاه حسم قرار المغادرة إلى جورجيا في 26 سبتمبر الماضي”.
و”عند وصولي إلى معبر “فيرخني لارس” الحدودي، فوجئت بطابور من السيارات امتدّ لكيلومترات طويلة، وحاولت البحث عن أماكن شاغرة في سيارات في مقدمة الطابور، ولكنها كانت جميعاً ممتلئة، إلا أنني اكتشفت في نهاية المطاف أن هناك سيارات تدخل من جورجيا وتعود على الفور وتعمل مثل المكوكات لنقل الفارّين من روسيا، فتمكنت من إيجاد مكان في إحداها، لي ولصديقتي، مقابل 35 ألف روبل (حوالي 580 دولاراً) للفرد، وكان هذا السعر جيداً حسبما علمت به فيما بعد”.
ويتحدث عن كيفية تأسيسه لحياته في جورجيا، قائلاً: “ليس لدي عمل يمكنني أداؤه عن بعد، فاضطررت إلى أن أنفق من مدخراتي أولاً، إلى أن وجدت عملاً في قطاع الفنادق، ولا أشعر بأي تمييز، وأعتزم تأسيس مشروع خاص بي في مرحلة لاحقة. لن أعود إلى روسيا إلا لبيع شقتي أو تقديم أوراق الهجرة إلى بلد آخر، ولن أستقرّ فيها إلا إذا تغيرت الأوضاع جذرياً أو أُحيل الرئيس فلاديمير بوتين على القضاء”.
لم ينتظر كثير من الشباب الروس إعلان التعبئة الجزئية، بل غادروا روسيا فور بدء الحرب على أوكرانيا في نهاية فبراير/شباط الماضي، ومن بينهم فلاديمير إيفانوف (اسم مستعار لاعتبارات الأمان الشخصي للمتحدث)، وعمره في منتصف العقد الثالث كما يقول لـ”العربي الجديد”، مضيفاً: “في صباح 24 فبراير/ شباط، اتخذت قرار المغادرة. كنت أعمل مسؤولاً عن منطقة الشرق الأوسط في شركة دولية في قطاع تكنولوجيا المعلومات، وتواصلت في ذلك اليوم مع شركائنا في شركة محلية إماراتية، فقدموا لي عرضاً جيداً، وسافرت بعد عدة أيام إلى دبي، تاركاً كل شيء”.
وحول انطباعاته من حياته في الإمارات، يضيف: “في البداية، عانيت بسبب تنظيم أمور الحياة اليومية واستخراج الأوراق ورخصة قيادة محلية وشراء سيارة، ولكن بعد مرور تسعة أشهر، يمكنني الإقرار بأنني أعيش حياة جيدة، وعلى الأقل أشعر بحرية، ولا أخشى من سجني أو تجنيدي. ولا أعتزم العودة إلى روسيا إلا بعد انتهاء البوتينية، يؤلمني كثيراً ما فعلوه مع بلادي”.
ويلفت إلى وجود عدد كبير من الروس في دبي، قائلاً: “هناك عدد كبير من الروس هنا، ولكن أغلبهم ليسوا من العاملين في قطاع تكنولوجيا المعلومات، بل الأغلبية من الأثرياء الذين استثمروا ملايينهم في العقارات، أو العاملين في قطاعي المال والاستشارات والمصارف الاستثمارية”.
وتقول سيدة في منتصف العقد الخامس من عمرها، فضلت عدم ذكر اسمها، إن عائلتها عاشت لمدة أسبوعين من دون تشغيل أي أدوات كهربائية خوفا من رصد أفراد لجان التجنيد وجود ابنها في المنزل. ومن اللافت أن الشباب الروس الذين اختاروا الاتحاد الأوروبي وجهة لهروبهم من التعبئة، لا يشعرون بأي تمييز بحقهم، وفق ما يوضحه شاب سافر إلى هولندا وفضل عدم ذكر اسمه، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “لا يبالي هنا أحد بالروس والأوكرانيين، وينظرون إلى مشاجرتنا، وكأنها تجري في مكان ما ناءٍ في أفريقيا. مثلاً، عند شراء شريحة هاتف هولندية، سئلت عما إذا كانت روسيا عضواً في الاتحاد الأوروبي”.
أدى سفر الشباب إلى زيادة عدد أبناء الجالية الروسية، ولا سيما الذكور، في دول الجوار، كما وثق معد التحقيق عبر المصادر المفتوحة، إذ إن 650 ألف مواطن روسي دخلوا إلى أرمينيا خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى أغسطس/ آب من عام 2022، بحسب بيانات هيئة الإحصاء الأرمينية، و318 ألفاً إلى أوزبكستان، وفق بيانات وزارة الداخلية الأوزبكية، وأكثر من مليون ونصف مليون إلى كازاخستان خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، بحسب بيانات وزارة الداخلية في كازاخستان التي تظهر أن عدد حالات الدخول تفوّق على عدد حالات المغادرة بمقدار 20 ألفاً.
وبعد إعلان التعبئة الجزئية في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، دخل إلى كازاخستان أكثر من 400 ألف مواطن روسي، مقابل مغادرة نحو 320 ألفاً، وفق بيانات وزارة العمل والرعاية الاجتماعية للجمهورية.
ومع ذلك، يقلل رئيس النادي الأوراسي للتحليل في موسكو (جمعية مستقلة تضم خبراء من بلدان الفضاء الأوراسي)، نيكيتا ميندكوفيتش، من أهمية تأثير هجرة الشباب في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في روسيا والدول المجاورة، في ظل عودة أغلب المسافرين وعدم استقرارهم بالخارج، ويقول ميندكوفيتش لـ”العربي الجديد”: “هناك نقاشات كثيرة في قضية الهجرة واسعة النطاق في عام 2022، ولكن لم تجرِ دراستها منهجياً، ولا ينبغي المبالغة فيها، إذ إن أكثر من 540 ألف أجنبي اختاروا التجنس بالجنسية الروسية منذ بداية العام، ما يغطي أي خسائر ناجمة عن هجرة المواطنين الأقل صموداً”.
ويلفت إلى أن موجة المسافرين منذ بداية العام وحتى سبتمبر/ أيلول الماضي، ضمت أربع فئات رئيسية، وهم موظفو الشركات الأجنبية التي نقلت مقارّها إلى خارج روسيا، والباحثون عن فتح الحسابات بالخارج للالتفاف على العقوبات، والمغتربون المسافرون خوفاً من تداعيات النزاع في أوكرانيا أو لاعتبارات مناهضة روسيا، وأخيراً الهاربون من التعبئة، وتميزت الفئة الأخيرة بالاعتماد الواسع على المعابر البرية بسبب نقص تذاكر الطيران وسرعة المغادرة خلال فترة بين عشرة أيام و20 يوماً.
وحول الوجهات الأكثر شعبية للمغادرة، يشير إلى بلدان رابطة الدول المستقلة مثل كازاخستان وقرغيزستان وأرمينيا وجورجيا، نظراً لإمكانية الدخول إليها من دون تأشيرة مسبقة وتوافر البيئة الناطقة بالروسية، ووجود خطوط نقل مستقرة مع روسيا.
ساهم تدفق المهاجرين الروس في نمو اقتصادات الجمهوريات السوفييتية السابقة، إذ رفع المصرف المركزي الأرميني توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من 1.5 إلى 13 في المائة بحلول نهاية العام، بينما ارتفعت قيمة ودائع المغتربين في كازاخستان بمقدار أربعة أضعاف إلى نحو 1.5 مليار دولار، وفق ما وثقه مُعدّ التحقيق عبر تقرير صادر عن شركة “أوكسفورد إكونوميكس” للتوقعات والتحليلات الاقتصادية.
في المقابل، رصدت سلسلة متاجر التجزئة “أزبوكا فكوسا” للمأكولات الفاخرة في روسيا، حركة سفر واسعة النطاق بين زبائنها منذ الربع الثاني من عام 2022، ويتضح من جولة وسط موسكو أنه أُغلق فرع “أزبوكا فكوسا” في شارع كوتوزوفسكي بروسبكت الكائن بالقرب من الفنادق الفاخرة الكبرى ومقارّ الشركات العالمية والسفارات الأجنبية.
ساهم تدفق المهاجرين الروس في نمو اقتصادات دول الجوار
وذكرت “أزبوكا فكوسا” في نشرة بيانات مالية موجهة إلى المستثمرين فيها، صدرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أن “السفر واسع النطاق للجمهور المستهدف” من بين الصعوبات التي واجهتها في الربع الثاني من العام، ولفتت إلى أرقام جهاز الأمن الفيدرالي بأن 3.8 ملايين شخص غادروا روسيا في الربع الأول من عام 2022 مقابل 2.6 مليون خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
ومع ذلك، يقلل ميندكوفيتش من أهمية التأثير طويل الأجل لقدوم الروس على اقتصادات الدول المجاورة، قائلاً: “لم يؤثر تدفق الروس بالقطاع الصناعي في الدول التي توجهوا إليها، بل كان التأثير أشبه بضخ دفعة من الأموال مرة واحدة، وأقل من نصف ممن بقوا لهم أعمال يمكن أداؤها عن بعد، وبالتالي، يمكنهم أن يصبحوا فاعلين اقتصادياً في محل إقامتهم الجديد.
وكثيرون عادوا إلى روسيا بعد أن شعروا بالفارق في جودة الحياة، وهو ما يمكن فهمه عبر بيانات مؤشر World Population Review لجودة الحياة، إذ تتفوق روسيا على جميع الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، بما فيها كازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان، في ما يتعلق بمعايير القوة الشرائية والأمان والرعاية الصحية وتكاليف المعيشة وأسعار العقارات قياساً بمستوى الأجور والتلوث والمناخ، ولكنها متأخرة عن دول البلطيق، وحتى بيلاروسيا وأذربيجان.
تكشف بيانات هيئة الإحصاء الروسية “روس ستات” أن عدد سكان روسيا بحلول 1 يونيو/حزيران 2022 بلغ 145.1 مليون نسمة (تشمل سكان شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول اللتين ضمتهما روسيا في عام 2014) بتراجع بلغ نحو 430 ألف نسمة منذ بداية العام.
إلا أن رئيس مجلس الإشراف في معهد الديموغرافيا والهجرة الروسي، يوري كروبنوف، يقلل من أهمية دور النزاع في أوكرانيا، سواء من جهة سقوط آلاف القتلى بين الذكور الروس أو هجرة عدد منهم، في تراجع عدد السكان الذي يرجعه بالدرجة الأولى إلى ندرة النساء في سن الإنجاب.
ويقول كروبنوف لـ”العربي الجديد”: “لا يمكن ربط استمرار التوجه نحو تراجع عدد السكان لا بسقوط قتلى خلال العملية العسكرية ولا بحركة هجرة الشباب، بل السبب الرئيسي هو ضعف معدل الإنجاب البالغ “طفل ونصف الطفل” في المتوسط لكل أسرة. لم يغادر المسافرون إلى الأبد، وحتى إن كان الأمر كذلك، فمثل هذه الفئة هي الأقل إسهاما في عدد المواليد، وقد يكون معدل الإنجاب لديها طفل واحد لكل أسرة، كونها تتبع نمط الحياة الاستهلاكي”.
ويلفت إلى أن هجرة الذكور ليست عاملا حاسما في تحديد عدد المواليد، كون السبب الرئيسي لتراجع عدد السكان يرجع إلى قلة النساء في سن الإنجاب بين الـ20 والـ30 عاما نتيجة لقلة المواليد في تسعينيات القرن الماضي، ودخول هؤلاء سن الإنجاب حاليا.
( المصدر : العربي الجديد )