ياسر عبدالعزيز
عذراً أصحاب اللغة، وعذراً للمتقعرين، فهذا المقال لا يخصكم، لأن عنوانه لا يعبر عن محتواه على كل حال، فلن أبحر مع النحويين ولن أغوص في جماليات اللغة، فيكفي الأمة منظريها ومحبي الكلام. فمقالي هذا إنما موجه للبسطاء من أهلنا المكويين بنار الظلم والقهر والتهميش، المستهدفين بالجوع والفقر والمرض، ومع بون الفرق بين التنظير والتثقيف، فإن الكلام لا بد أن يبدأ بمعاني الأشياء، فقد علّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.
ونبدأ بمعنى الثورة التي هي تعني التغيير، فلا يمكن أن تطلق على فعل احتجاجي هذا المصطلح (ثورة) إلا إذا تبعه تغيير؛ إما أن يكون دائما ومتطورا، أو منتكسا ومتراجعا. وفي حالة يناير فقد تم التغيير، لكنه اندرج تحت المعنى الثاني للثورة، أي أنه منتكس ومتراجع. لكن من جميل الأقدار أن هذه الثورات المندرجة تحت هذا المعنى، لا تبقى على حالها، منهزمة ومتراجعة ومنكسرة، ولكن الفعل الثوري الذي سرى في عروق الشعب يتحور ليصبح جينا تتوارثه الأجيال وقد يضعف أو يقوى بحسب المغذيات، بلا شك، لكنه يظل موروثا رغم ضعفه.
من جميل الأقدار أن هذه الثورات المندرجة تحت هذا المعنى، لا تبقى على حالها، منهزمة ومتراجعة ومنكسرة، ولكن الفعل الثوري الذي سرى في عروق الشعب يتحور ليصبح جينا تتوارثه الأجيال وقد يضعف أو يقوى بحسب المغذيات، بلا شك، لكنه يظل موروثا رغم ضعفه
ومعنى الفاعل والمفعول الذي قصدناه في عنوان هذا المقال، هو الشعب والحاكم ومَن وراءه من قوى تحرك العالم بعد تراجع بلادنا. وكما أن التقديم والتأخير جائز في اللغة، فإنه في السياسة واقع، فقد يتقدم الفاعل فيتم التغيير، وقد يتأخر فتنكسر ثورته، ويصبح مفعولاً به. وبين أن يكون فاعلاً أو مفعولاً به فتلكم المعضلة، لكن علينا أولاً أن نشخّص أسباب أن يصبح الشعب فاعلاً أو أن يتحول إلى مفعول به، ونلخص ذلك في..
العلم والفهم والوعي؛ العلم بماهية دوره على الأرض يعيش عليها والتي هي ملكه وليست ملك الحاكم، والفهم بأنه هو السيد وله الحكم والأمر، بعد الله، على هذه الأرض، والوعي بآليات تنفيذ كل ما سبق ومن ثم إعداد الفرد، ومن ثم المجتمع، بالمعارف اللازمة وبدرجات متفاوتة تصل إلى أفهام الجميع من صغيرهم لكبيرهم ومن أدناهم علماً إلى أصحاب الشهادات العليا، مفاهيم تصل إلى حد المسلّمات. وفي هذه الحالة ومع بناء الأجيال وتنشئتها على هذه المفاهيم المستقاة من القيم والمُثل العليا (الحق والخير والجمال)؛ مُثل أتت بها الأديان وتوافقت عليها الفطرة الإنسانية السليمة.
لذا فإن الباحثين عن السلطة من خلال فورة أو انتفاضة شعبية من غير أن يكون لهم مشروع لبناء مجتمع يؤسس على العلم والفهم والوعي، وينطلق من المباحث الكلية والقيم المطلقة من الحق والخير والجمال، فهم بالأصل ليسوا ثواراً بل طالبي سلطة، إذ أن مشروعهم الباحث عن السلطة لا يمكن تصنيفه بالثورة التي تعني التغيير، بل هو مشروع إزاحة وليس ثورة.
لقد جربنا ثورة من دون رأس تقودها، ومن غير فكرة تدفعها، ومن غير خطة تحركها، وكانت ثورة تداعى لها الناس على شعارات كبيرة (عيش- حرية- عدالة اجتماعية- كرامة إنسانية)، ثورة حلم شبابها بثورة فرنسية جديدة بأياد مصرية.. لم يؤطر للحراك الشعبي الهادر المدفوع بحلم الحرية والرفاه؛ أصحابُ الثورة، ولم يترك كبارُها الذين انضموا على استحياء شبابَها ليقودوا المشهد ويخططوا لمستقبلها، فكانت كالثورة الفرنسية في اندفاعها ولم تستكمل طريقها، كما خطط ماو في الثورة الصينية ووضع خططه ومحددات ثورته وشكل الجمهورية الثورية بعد أن تسيطر.
الثورة تحتاج قيادة، والقيادة هنا ليست بالضرورة أن تكون فرداً، كما رسخ في أذهاننا منذ طفولتنا، وكما رُوج لنا ونحن كبار، ولا أدري عن جهل أم عن عمد، فالبطل الشخص يجسد المشروع ويمثله ومن ثم ينفذه، لكن البطل الحقيقي هو المشروع
والثورة تحتاج قيادة، والقيادة هنا ليست بالضرورة أن تكون فرداً، كما رسخ في أذهاننا منذ طفولتنا، وكما رُوج لنا ونحن كبار، ولا أدري عن جهل أم عن عمد، فالبطل الشخص يجسد المشروع ويمثله ومن ثم ينفذه، لكن البطل الحقيقي هو المشروع. فلقد ذهب محمد ﷺ لكنه ترك مشروعاً مبنياً على كليات ترقى فوق كل المُثل التي بحثها الفلاسفة، ترك محمد ﷺ ثورة لتغيير حياة البشر حمل مبادئها رجال فجسدوها وبنوا دولة، بل في بعض الأحيان دولا، مبنية على ثورته أو مشروعه، ولقد ثار محمد ﷺ ثورة على المعتقد وعلى النظام الاجتماعي والأعراف “القوانين” الجائرة، وزرع مكان القبح والرذيلة والدناءة الجمالَ والرقي والفضيلة والعدل.
فالقائد المنتظر هو المشروع المبني على رؤية علمية تراكمية تستفيد من دراسات وأبحاث الباحثين وأساتذة العلوم الإنسانية والعلمية وخبرات من مارسوا هذه الفنون ليمتزج العلم بالعمل، من دون أن يفتئت أحدهم على الآخر ولا يستهين بعضهم ببعض. ولقد كتبنا في ذلك سلسلة، منذ سنوات، أسميناها “صناعة القيادة الثورية”، يرجى الرجوع لها، لكن العمدة في الأمر هو ذلك الفهم لأهمية العمل على مشروع يؤسس بالأصل لبناء الفرد بالتوازي مع بناء الحياة الكريمة، خدمياً وعلمياً ويؤطر لها بقوانين عادلة، وصولا إلى الرفاه الذي يحق لشعوبنا أن تعيش فيه بحكم الثروات والموارد المادية والبشرية التي أنعم الله علينا بها وينهبها الاحتلال ووكلاؤه.
كل عام وثورتنا بخير، كل عام وثوارنا بخير، وبعد 12 سنة “لساها ثورة يناير”..
( عربي 21 )