لميس اندوني
زلزال الضمير المنسي
وجوه أطفال، بكاء آباء، نحيب أمهاتٍ ناجيات، عائلاتٌ تئنّ تحت أنقاض الزلازل في سورية وتركيا تطاردنا، تُظهِر لنا أشباحاً في المنام… واليقظة.
صحيحٌ أنّ الزلازل تهزّ الأرض عبر التاريخ، لكن مشاهد الركام توقظ فينا الضمير الغائب. لكن، هنا أتراجع عن قولي هذا، إذ لا أستطيع التعميم، أو الجزم، فهي لم توقظ ضمير العالم الغائب، وإلّا… لشاهدنا الطائرات المحمّلة بآليات الإنقاذ والأدوية تعبر البلدان والبحار والمحيطات.
لا فرق بين صرخة أم مكلومة أو دموع أب مثلوم أو صدمة طفل … لا فرق في وجع الفقد بين سوري وتركي، أرمني أو تركماني أو كردي، بين أردني وفلسطيني، أو أيزيدي، وأي ضحية ابتلعتها أرضٌ مشقوقة، أو انهالت عليها عاصفة الحجر والإسمنت، لتجعل من بيتٍ آمنٍ مقبرةً في ثوانٍ معدودة.
هي كارثة طبيعية، صحيح. لكن الكارثة الأكبر تقصير العالم، المتخم بالتقدّم العلمي والاتصالات وآليات تدار بأحدث ابتكارات التكنولوجيا، في الوصول إلى نقاط الدمار. صحيحٌ أنه مهما تقدّم العلم والاكتشافات والاختراعات سيبقى هناك عجز في مواجهة ثورات باطن الأرض، لكن التقصير في المساعدة جريمة. هو جريمة بشاعة سياسة المصالح والاستبدادين الدولي والمحلي.
التقصير أيضا جريمة الإفقار والتفقير والغشّ، وفساد يقوده وحش الجشع. صحيح، مرة ثانية، أنها كارثة طبيعية، ولا توجد قوةٌ تكفل نجاة الجميع، لكن التقصير في عصر الدول الثرية القادرة والمقتدرة يعني إهدار حياة ألوف الضحايا التي كان يمكن إنقاذها.
مرة ثانية وثالثة، لا فرق في أصل أي ضحية، لكن المرء لا يستطيع إلا أن يفكّر بهول المأساة السورية، من استبداد نظام، إلى تدخّل أطرافٍ بحجج مختلفة، من دعم “نظامٍ يدّعي المقاومة” غطاءً للظلم، إلى ادّعاءٍ زائف بدعم “انتفاضة الشعب السوري”، من أطرافٍ تتبجّح بأنها صديقة لسورية، وتتأخّر النجدة، وبعضها لم يتحرّك بعد لمساعدة السوريين.
يحقّ للسوري أن يغضب ويكره العالم بأسره. كنّا في نكبة فلسطينية، وهي نكبة مستمرّة، لنشهد ونعيش نكباتٍ تحلّ على الشعب السوري، ولم ترحمه حتى الكوارث الطبيعية، كما لم ترحم لاجئا فلسطينيا، تشرّد مرارا ووصل إلى أمان سورية، ليجد نفسه مع السوري في بلد لجوء، هو تركيا. ولكن حين شعر هؤلاء بالأمان، وتفقدت عائلاتٌ أبناءها البعيدين في المنفى أو في ابتعاث دراسي، وانتظرت أخبارهم، لتجدهم قد طُمِروا تحت طوبٍ وحديد.
لا تقلل قصصهم من قيمة فقدان الأتراك أمانهم في بيوتهم، ولا فقدانهم أحباء وأقرباء، فكل الفقد واحد، فحين تصبح جملة “نحن بخير فهم في الشارع” أو “الأهل بخير فهم في الشارع” هي وصفٌ لدمار بيت ونجاة عائلة، وتشرّدها.
نعي، أو قد لا نعي بالكامل حجم المأساة، هي حالة عاشها ملايين الناس في كوارث طبيعية وحروب الجشع والدمار، حين يصبح الإنسان ليس أكثر من رقمٍ بين ألوف أو مئات الألوف من الضحايا، فكلنا يذكر عواصف تسونامي في دول جنوب آسيا، أو حتى في ولاية كارولينا الأميركية، فمع أن الطبيعة لا ترحم، إلا أن جشع رأس المال قد يُساهم، في أكثر الأحيان، في زيادة أعداد الضحايا وحجم الألم، فمن بناءٍ مغشوش، إلى فشل الدول في توفير الرعاية الاجتماعية والطبية لتزيد الفاجعة إيلاما، وتضاعف عدد أرواحٍ باتت أياما تنتظر تحت الركام، ولم تجد من ينقذها.
لكن، إذا ركّزت على الشعب السوري، فهذا لأنني أتمنّى أن أستطيع الاعتذار من الشعب السوري، فكثيرون منا حبيسو أيديولوجياتهم، نُفصّلها على المقاس الذي نريد، ونسمح لها بالتأثير على التعاطف الإنساني، فانتقائية التعاطف الإنساني لا يريد معظمنا إقرارها.
علينا إعلان تعاطفنا مع الشعب السوري، بغضّ النظر عن الموقف الأيديولوجي، وأنا أتحدّث عن الشعب. أقول ذلك وأنا أرى وأسمع من لا يتعاطف مع سوريين في مناطق النظام، لكن الأقبح بكثير، والمبكي، حين يعلن مثقّفون أو نشطاء سياسيون عن انتقائية دعمهم مناطق اللاذقية وحماة ويحجبها عن إدلب وريف حلب، فحين نقول “سوريا يا حبيبتي”، هي سورية بشعبها، الوطن السوري بأكمله، من لاجئين وهاربين وجدوا منفىً بدلاً من غياهب السجون في وطن لا يسع الجميع.
حريٌّ يهذه الكارثة أن تجعلنا نستفيق، فمنذ الانتفاضة السورية، نعيش في شرخ تجاوزَ الخلاف السياسي، فكل المواقف كانت انتقائية، فهناك قصف أميركي لسورية مرغوب من بعضٍ مرفوض من آخرين، وهناك قصف روسي مقبول، بل ومرحّب به، ومرفوض من آخرين.
أتحدّث عن السياسيين … والمثقفين، نتحدّث وكأن الشعب السوري غير موجود، لا.. لم أفقد البوصلة، فما زلت أؤمن أنّ أميركا استعمارية وكاذبة، ولا تأبه بحقوق السوريين، ولا الفلسطينيين، ولا أي شعبٍ آخر، ولا تفرض عقوباتٍ حبّاً بحقوق الإنسان. ولكن، كفانا ظلما للشعب السوري، السجين بين جدارَي نظام دموي، ومدّعي معارضة زائفة، صادرت مطالب الشعب السوري، وهمّشت المعارضة الوطنية الحقيقية التي بقيت وحيدةً لا صوت لها ولا للشعب السوري.
نعم، هناك مناسبةٌ لهذا الحديث، إنها دعوة إلى المثقفين والحراكيين والسياسيين في العالم العربي، أن يشعروا بالزلازل ويتوقّفوا عن جدل الشعارات… ليست الصورة قاتمة، وكل مبادرة لنجدة أهل سورية مهمة، بغضّ النظر عن دوافعها، لكن على الأقل لنضع الجدل جانبا، فليس هناك طرف بريء قصف سورية، بدءاً من أميركا، مروراً بمن جلب “داعش” والمنظمّات المتطرّفة إلى الداخل السوري، وإيران وروسيا، التي أصبحت ضامنة أمن إسرائيل على حدود هضبة الجولان المحتلة.
أقول ذلك، لأن استمرار التصنيفات أصبح غير إنساني في وضعٍ يحتاج إلى موقفٍ إنسانيٍّ لا يحتمل التصنيفات العصبوية.
عودة إلى البدء. أريد التذكير أن طائرات القصف من أطرافٍ عدّة، وصلت بسرعة إلى سورية لتمطرها قصفاً. أما حين حلت كارثة الزلزال، فلا تزال طائرات الإنقاذ تزحف ببطء، أو لم تبدأ بالزحف أصلاً، وسط تردّد، بل وتقصير قاتل من الأمم المتحدة.. فلا حجّة مقبولة، لا المقاطعة وشروطها للوصول إلى اللاذقية وحماة، ولا مشكلات معبر باب الهوى لإنقاذ أهل الشمال، حتى تركيا، بكل تجهيزاتها، لا تستطيع مواجهة كارثة بهذا الحجم.
والعزاء كلّ العزاء لشعب تركيا، وإن كانت كلمات العزاء لا تكفي، ولا معنى لها أمام السوري أو التركي، أو كلّ مفجوع.
ولنتذكّر أنّ الفجيعة لا تحتمل إسقاطات عصبوياتنا السياسية، أو خلافاتنا الأيديولوجية.
( العربي الجديد )