محمد جميح
الزلزال… حكايات عائدين من الموت
زلزال تركيا وسوريا، مشهد من مشاهد يوم الدين، نهاية التاريخ وخراب الجغرافيا، وهول الزمن الذي كشر عن وجهه عندما زلزلت الأرض «زلزالاً عظيما». المباني تتمايل وتمد شرفاتها، كي تتساند على بعضها دون جدوى، والناس كنمل مر عليهم جند سليمان، أو كما يظهر في بعض أفلام الرعب، عندما يظهر كائن أسطوري يحطم المباني ويسحق الناس، ويحيل العمارات الشاهقة ركاماً مختلطاً بجثث الكبار والصغار، حيث الأقدار تهطل كمطر مصحوب بعواصف رعدية وصواعق مرعبة، وحيث يظهر الإنسان عاجزاً ضعيفاً أمام قوة جبارة تعصف بمحيطه كله، دون أن يستطيع مواجهتها، في مشاهد توراتية، أو كوارث خرجت من كتب الملاحم الإغريقية.
يصف أحد الناجين الأتراك الزلزال بأنه «جعل الأشجار تلمس الأرض وتعود لهيأتها الأولى مرة أخرى كما لو كانت راكعة» ولنا أن نتصور كيف ركَّع الزلزال الحديد والإسمنت، وأحال المباني إلى جثث هامدة، أو مقبرة جماعية دفن بها أكثر من 40 ألف إنسان، في الشوارع والميادين، حتى اليوم.
وفي خضم هذا اليوم الذي أطل على العالم من مشاهد القيامة سجلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مشاهد تحكي قصة الإنسان، الإنسان الأعزل من كل قوة أمام الزلزال، والإنسان الذي يواجه مصيره في ما يشبه معركة غير متكافئة، يظهر فيها الضعف الإنساني في أجلى معانيه، وتظهر قصص وحكايات للناجين من هول الكارثة: من المولودة التي نجت بعد أن وجدت معلقة بالحبل السري للأم التي ماتت، والرضيع الذي خرج من تحت الأنقاض مبتسماً بعد خمسة أيام تحت الركام، والطفلة الأخرى التي ما إن بان لها الضوء من تحت الركام حتى بادرت فريق الإنقاذ بتحيتها العفوية: «السلام عليكم، وكأنها قدمت للتو من مشوار صغير انتهى بظهور خصلات من شعرها لفريق الإنقاذ الذي صرخ أعضاؤه: وعليكم السلام، في فرحة غامرة بنجاتها، وطفلة أخرى خرجت من تحت جثة مبناها في اليوم السادس، وما إن خرجت حتى طلبت بعض العصائر التي تحب تناولها.
الناجون في اليوم الثامن (بعد 198 ساعة من وقوع الكارثة) حكاية أخرى، حكاية الأجل الذي حماهم بعد ثمانية أيام تحت الأنقاض، وهي حكاية تحتاج إلى تفسير، إذا كيف يكمن أن يعيش الإنسان مع قدر قليل من الهواء، وبلا ماء أو غذاء كل هذه المدة؟ وماذا جرى للعمليات البيولوجية في الجسم الذي صمد كل هذه الفترة؟ وهل قلص الجسم من نفقاته الحيوية ليظل على قيد الحياة، أم أنه جمّد بعض وظائفه ليبقي على ما يستطيع من مؤونة احتفظ بها لأيام ثمانية من الهول؟ وهل هناك تفسير علمي لمثل تلك الحالات؟
هناك لقطات مؤثرة لناجين خرجوا يرددون تسابيح ودعاء نم عن اتصال روحي عميق بالله، وهناك من خرج تالياً تسابيحه من القرآن الكريم، وظهرت صور لموتى وهم ممسكون بالمسابح، حيث كانت آخر لحظاتهم في الحياة اتصالا مباشرا بالملأ الأعلى، مع أسئلة مثيرة عن كيفية موت هؤلاء على هذه الشاكلة.
أما حكايات الذين قضوا تحت الركام، فهناك قرابة 40 ألف حكاية لم نتمكن من سماعها من قبل أصحابها الذي أطبق عليهم الموت من كل الجهات، وهي حكايات لو رويت لكانت أغرب ما سمعنا في حياتنا، حيث حوت تفاصيل عن لحظات مواجهة الموت، وماذا جرى من حوار روحي بينهم وبينه؟ وماذا رأوا من مشاهد يقال إن الموتى يرونها قبيل لحظات الفراق؟ وكيف كان يومهم الأول في عالمهم الجديد؟ وكيف كان استقبالهم هناك؟ وكيف رأوا الموت؟ ما لونه؟ ما شكله؟ كيف نفذ وظيفته معهم؟ وكيف حمل أرواحهم إلى المستقر الجديد؟ وما هو شكل العالم الآخر؟ ما صفته؟ ما حقيقته؟ وأين هو؟ وأسئلة أخرى لم نحصل على تفاصيل إجاباتها، لأن أحداً لم يرجع إلينا ليخبرنا كيف كانت المائدة الأخيرة التي تناولوا فيها الكأس مع الموت، رفيق رحلتهم الجديدة إلى العالم الآخر، ولو أن أحداً عاد ليخبرنا، لربما أفسد علينا متعة اللقاء الأول برفيق الرحلة الذي سيصحبنا جميعاً في أثناء عبورنا النهر إلى الضفة الأخرى، حيث شاءت الأقدار أن تظل حياتنا محفوفة بالدهشة والغرابة، حتى ونحن ننتقل إلى العالم الآخر الذي لا نعرف عنه إلا بعض أوصاف جاءت بلغة دينية رمزية لا تحيل إليه بشكل مباشر.
يبدو أن الزلزال كان بروفة ليوم «العرض الأكبر» للزلزال الكبير الذي من المقرر أن يحدد نهاية العالم، إنه بلغة الفلسفة تمرين بسيط لتهيئة الأرض والإنسان للمصير المرتقب، المصير الذي عبر عنه أحد الناجين من «انتفاضة الأرض» عندما قال:
«ذهبت للنوم ونهضت لحظة خسوف الأرض بي وسقوط السقف علي…بدأت بالزحف نحو أماكن أكثر اتساعا كي أجد منفذا للخروج، وأمضيت في ذلك قرابة ساعتين، أصوات العالقين تحت الأنقاض تأتي من كل مكان وبشكل مرعب، المكان كان شديد العتمة، صرت أرى الجنة والنار، وقلت يا الله».
حدث الزلزال – إذن – والأرض تتهيأ لاستقبال يوم جديد، حيث قامت بحركة تشبه حركاتنا ونحن ننهض من السرير، ونحاول أن «نتمطى» بتحيرك بعض أجزاء الجسم لإبعاد بقايا النوم، يبدو أن الأرض كانت «تتمطى» لتبعد عنها بقايا النعاس، لكن حركة يديها وهي تنهض من سريرها كانت رهيبة، أودت بحياة عشرات الآلاف، أو ربما كان قلب الأرض قد ضاق بما فيه من طاقة غضب خرجت على طريقة «اتق غضبة الحليم».
مهما يكن من أمر فإن الزلزال الطبيعي ستتبعه زلازل نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية ستستمر لفترات قادمة طويلة، إذ يصعب على من قضى تحت الركام أياماً طويلة أن يمسح عن مرآته الداخلية آثار ما حدث، كما أن فقدان الأحبة وتمزق أواصر العائلات ودمار المدن سيؤدي إلى إعادة تركيب التوليفة المجتمعية واتخاذ أشكال أخرى من التعايش، ناهيك عن الآثار السياسية للزلزال الذي بدأت المعارضة التركية باكراً توظيفه ضد حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في سرعة قفزت على الآلام، لتحيل تلك الآلام إلى «كاش سياسي» تنتزعه من «محفظة» أردوغان التي راكمها خلال سنوات من العمل والمعارك والمكاسب على مجالات مختلفة.
بقيت الإشارة إلى أن الزلزال الذي راكم الجثث قد فجر ينابيع المواساة، حيث تواصلت الجسور الجوية، وعلى وجه الخصوص من الخليج العربي، حيث كانت المساعدات السعودية ومعها الخليجية الأخرى رائدة في المجال الإنساني في كل من تركيا وسوريا.
وتظل حكايات الزلزال مستمرة تضج بها الصحف والشاشات، وستظل ارتداداته على المستويات كافة في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وستدخل تلك الحكايات صفحات التاريخ والأدب، كأعظم زلزال شهدته المنطقة خلال المائة عام الماضية.
(القدس العربي)