بعد نحو 6 عقود من الاستقلال لا تزال طبيعة العلاقة بين فرنسا وإفريقيا مثار نقاش حاد، لم يهدأ مع مطالبة بلدان إفريقية بـ”فك الارتباط” بشكل نهائي مع القوة الاستعمارية 0، قابله سعي فرنسي حثيث إلى استدامة مصالحها السياسية والاقتصادية.
المعالم الرئيسية لسياسة فرنسا تجاه القارة السمراء، حددها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحافي في 27 فبراير، قبل جولة إفريقية شملت 4 دول، قوامها “التواضع والمسؤولية”. فيما انتقد “من يستقرون هناك بجيوشهم ومرتزقتهم”، في إشارة إلى روسيا ومجموعة “فاجنر”.
وكتبت صحيفة “لوموند” في افتتاحيتها بمناسبة الجولة معتبرة أن “فرنسا في حاجة إلى أكثر من مجرد خطوات صغيرة (..) وعلى فرنسا أن تثبت فعلاً وليس قولاً أنها تخلت عن سياسة الفناء الخلفي”.
وإذا كان جوهر خطاب الرئيس الفرنسي هو التحلّي “ بالتواضع” والتخلي عن “السياسة الأبوية ”، فإن مراقبين للشأن الإفريقي يستبعدون حدوث تغيير كبير في السنوات المقبلة، مشيرين في تصريحات لـ”الشرق” إلى تنامي “العداء الشعبي” لإفريقيا بعد عقود من التدخلات العسكرية والسياسية دفعت البلدان الإفريقية للتعامل مع شركاء آخرين على غرار روسيا والصين.
فيما أقر مسؤولون فرنسيون لـ”الشرق” بـ”فشل جيوسياسي” لبلادهم في إفريقيا، وأنها أصبحت بحاجة لمراجعة شاملة لسياستها.
فهل تسير فرنسا نحو خسارة نفوذها في القارة الإفريقية؟ وهل يدفعها التنافس الدولي وتنامي الخلافات مع البلدان الإفريقية إلى تغيير سياستها في القارة السمراء؟
علاقات متوترة.. من مالي إلى بوركينا فاسو
لم تنظر فرنسا بعين الرضا إلى الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في أغسطس 2020، وأسفر عن الإطاحة بالرئيس أبو بكر كيتا، في خضم مشكلات أمنية مرتبطة بنشاط الجماعات المتشددة شمال البلاد.
وكان واضحاً منذ البداية أن العلاقات بين باماكو وباريس ليست على ما يرام، وهو ما ظهر في إعلان الرئيس الفرنسي في 10 يونيو 2020 إنهاء عملية بارخان، مبرراً ذلك في خطاب ألقاه في فبراير 2021، بأنه “لا يمكننا الاستمرار في التعاون عسكرياً مع سلطة لا نتقاسم معها الاستراتيجية والأهداف ”.
وشهدت العلاقات بين الطرفين سلسلة من المواقف التصعيدية وحروب البيانات، بلغت أوجها في 22 مايو 2022، حين أعلنت السلطات في مالي إلغاء اتفاقات الدفاع مع باريس، واتهمتها بالقيام بـ”أعمال عدوانية ودعم جماعات جهادية والتجسس ”.
سيجا ديارا رئيس حركة “بي تون” المالية، قال لـ”الشرق” إن “هناك العديد من المجموعات في مالي تنتقد عملية بارخان بسبب ضعف نتائجها ومزاعم ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان قامت بها القوات الفرنسية ”.
في بوركينا فاسو سرّعت العمليات ”الإرهابية” التي شهدتها البلاد في 2020 و2021، والفوضى الأمنية التي تلتها، إلى الإطاحة بالرئيس روش مارك كريستيان كابوري في انقلاب نفذه عسكريون في 23 يناير.
وإذا كان اختلاف المصالح بين باريس وباماكو أساس الخصومة بينهما، فإن الوضع يبدو مختلفاً بالنسبة لواجادوجو، فالبلدان تربطهما علاقات وطيدة، إذ عاش هذا البلد الإفريقي على وقع التدخلات المباشرة، بداية من الدور الفرنسي في اغتيال البطل القومي توماس سانكارا عام 1987، مروراً بتدخل القوات الخاصة الفرنسية عام 2014 لحماية الرئيس بليز كومباوري الذي قضى 27 عاماً في الحكم.
وأدّى تصاعد الأزمة بين الجانبين إلى إلغاء حكومة بوركينا فاسو كل الاتفاقات العسكرية مع فرنسا،
نفذت فرنسا خلال الـ50 سنة الماضية أكثر من 40 تدخلاً عسكرياً تحت ذريعة حماية المدنيين وتطبيق الاتفاقات العسكرية، وعلى الرغم من الانتقادات، إلّا أن باريس استطاعت في كل تدخل فرض وجهة نظرها بالحديد والنار.
في زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً)، دعمت باريس المارشال موبوتو سيسيكو في حرب “شابا الأولى” عام 1977 ضد متمردي جبهة تحرير الكونغو التي سيطرت لفترة وجيزة على منطقة شابا في الجنوب الغربي لزائير بدعم من أنجولا المجاورة.
وفي إفريقيا الوسطى مكنت عملية “باراكودا” عام 1979 من الإطاحة بـ”الإمبراطور” جون بيدل بوكاسا وعينت ديفيد داكو رئيساً، ثم عاودت التدخل في نفس البلد من خلال “عملية ألماندين” عام 1997 بعد مقتل جنديين فرنسيين.
وبين عامي 2006 و2007 تدخلت فرنسا لدعم القوات النظامية ضد المتمردين في الشمال، وأخيراً في عام 2013 وبعد الانقلاب على الرئيس فرانسوا بوازيزي نشرت باريس أكثر من 1000 جندي في إطار عملية “سنجاريس”.
وفي عام 1983 نفذت فرنسا عملية “مانتا” في تشاد حيث حشدت أكثر من 4000 جندي لدعم الرئيس حسين هبري ضد المتمردين التابعين للرئيس السابق كوكوني عويدي.
وأرسلت باريس عام 1986 مظليين من قواتها الخاصة إلى توجو بعد محاولة الانقلاب ضد الرئيس جناسينجبي إياديما.
وبعد الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها الجابون عام 1990 ومقتل المعارض جوزيف جامبي في ظروف غامضة، تدخلت القوات الفرنسية في كل من ليبرفيل وبورجونتي لـ”حماية مواطنيها المقيمين في المدنيتين”.
وفي عام 1995، تدخلت القوات الفرنسية عسكرياً بعد الإطاحة برئيس جزر القمر محمد سعيد جوهر، على يد المرتزق بوب دنار، ونجحت في اعتقاله ونقله للمحاكمة في فرنسا.
وفي كوت ديفوار مكنت عملية “ليكورن” من دعم موقف الحسن وتارا، وتأمين وصوله إلى السلطة، بعد أكثر من 6 أشهر من الصراع مع منافسه لوران جباجبو، الذي رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية نهاية 2010.
إلّا أن الدور الأكثر إثارة للجدل، كان المجزرة التي شهدتها رواندا سنة 1994 وراح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص معظمهم من التوتسي، واتُهمت على إثرها باريس بالتغطية على المجازر، بحسب تقرير لجنة التحقيق الفرنسية، دون أن يُحمّلها المسؤولية المباشرة.
وذكر التقرير أن “موقفاً استعمارياً أعمى المسؤولين الفرنسيين، والحكومة تتحمل مسؤولية كبرى لعدم توقعها الجريمة ”.