كأن ثورات الربيع العربي قطع ملابس في غسالة واحدة وقد بهتت ألوان بعضها علي بعض، حتي أن اغنية “القلب يعشق كل جميل” الوحيدة التي تتغنى بها الثورة السورية بعد سرقتها من السيدة أم كلثوم، وأصبح اللحن الذي ألفه رياض السنباطي لأغنية دينية أيقونة ثوار دمشق، ولعنة تطارد حافظ الأسد وزوجته وأولاده وأحفاده.
تولى حافظ الأسد منصب رئيس الجمهورية العربية السورية، والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، في 22 شباط (فبراير) 1971، وعبر أكثر من خمسين عامًا، عمل الأسدان، الأب ومن بعده الابن بشار، المستحيل كي يعبدهما السوريون.
مارسا أقذر وأحط أنواع الحكم التي يمكن أن يتخيلها عقل بشري، وفي لحظة من لحظات الإحساس بالعظمة، آمنا أنهما تحولا إلى آلهة أو حتى أنصاف آلهة.لم تكن عبارة “لا إله إلا بشار” كلمة عابرة، أو حتى عفوية، بل كانت سياسات ممنهجة ومدروسة، مورست بحق شعب فقد كل شيء، أمام سلطة امتلكت كل شيء.
في بداية الثورة السورية في ١٥ آذار ٢٠١١ كانت الفعاليات الثورية تتم بشكل أسبوعي ويتم تسمية الجمع بأسماء تميز مظاهراتها ابتداءً من جمعة الكرامة في ١٨ آذار الى الجمعة العظيمة مرورا بجمعة الإرادة وجمعة الصمود.
وبعد عشرة جمع متتالية قررت اللجان الثورية تحويل الفعاليات الثورية الى يومية من مطلع حزيران ٢٠١١ وبدأت تسمية الايام واختيار فعالية او هتاف يتم توحيده في جميع المحافظات فكان يوم احراق الصور ثم يوم الامتناع عن دفع الفواتير يوم الاضراب العام.
وكانت الجمع والأيام يتم تسميتها عبر تصويت على عدة صفحات منها الثورة السورية ضد بشار الاسد وصفحة اللجان الثورية واتحاد التنسيقيات وغيرها.
وجاء يوم ١٠ حزيران ذكرى رحيل حافظ الأسد وأطلق اقتراح ان يتم تسميته بيوم لعنة روح حافظوتوحيد هذا الهتاف في كل المظاهرات.
ولكن كيف مر هذا الاسم لا اعلم رغم ان الاسلاميين السلفيين كانوا معترضين من باب انه لا يجوز اللعن، والاسلاميين المتنورين كذلك قالوا بالأخص لعن الروح لأن الروح من أمر الله.
الكثير من القوميين والمستقلين كانوا معترضين من باب التخوف ان يستفز هذا الهتاف النظام ويدفعه الى مزيد من العنف والاجرام.
واليساريين لم يروا فيه هتافا ذا قيمة والمتنورين قالوا بأن هذا هتاف سلبي وعلى الثورة ان تطرح شعارات تعطي روح ايجابية.. مع ذلك مر الاسم بقدرة قادر، وقد شكك الكثيرون بأنه لن يكون يوما ناجحا.
ولكن المفاجأة كانت مدوية عندما اثار هذا الهتاف روحا تمردية وكان تنفيسا حقيقيا عن سنوات من الكبت والقهر.. ولمس جميع المراقبين نشوة الحرية في ذروتها تنطلق من أعماق القلوب والحناجر.
قررت اللجان الثورية ان تمدد يوم لعنة روح حافظ لتكون ثلاثة أيام واعتقد الكثيرون أن هذا الهتاف سيخفت بعدها لكثرة استخدامه لكن الشعب السوري قرر ان يمدد يوم لعنة روح حافظ الى الابد وكان الهتاف الاكثر استخداما والاكثر تأثيرا وتفاعلا في كل مظاهرات السوريين في كل مكان في العالم وسيبقى الى ما شاء الله.
ويقول الموسيقي والباحث العماني مسلم بن أحمد الكثيري في مقال نشره في جريدة “عُمان”، إن لحن السنباطي لـ “القلب يعشق كل جميل” جاء مغايراً للكثير من ألحان الأغاني الدينية، التي يُكثر فيها المنشدون أو المغنون من استخدام الآهات أو الترنمات للاستعاضة بها عن استخدام الآلات الموسيقية.
ويقول الكثيري إن السنباطي لم يجد في استخدام الآلات الموسيقية انتقاصاً من روحانية الأغنية الدينية أو هيبتها، بل طوّع استخدام الآلات الموسيقية لزيادة روحانية الكلمات وتأثيرها.
ويلاحظ الكثيري “دور آلة القانون البارز من خلال أداء الأستاذ محمد عبده صالح الذي يكاد أن يكون ثاني المؤدين بعد أم كلثوم نفسها، فيما يشترك في الصولو الأخير معهما عازف الكمان الشهير الأستاذ أحمد الحفناوي”.
ويضيف أن “الأعمال الموسيقية لا يقدمها المطرب فقط بل وكذلك العازفون الماهرون الذين يلاقون أيضاً التكريم بالتصفيق من الجمهور تقديراً لحسن أدائهم”.
“لا يعاتب اللي يتوب ولا بطبعه اللوم”، يقول بيرم التونسي في كلمات الأغنية واصفاً رحمة الله وقبوله للتائبين. ويقول أيضاً واصفاً كرم الله وعطاءه “أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم، وانا اللي علمتك من غير ما تتعلم. واللي هديته إليك لو تحسبه بإديك تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم”.
يمكن القول أن بيرم التونسي في هذه الأبيات ينتصر للتصور الشعبي للدين والتدين وليس للتصور المؤسساتي، ولعل هذا أحد أسباب ذيوع وانتشار “القلب يعشق كل جميل” حتى يومنا هذا.
الدين كما تصوره الأغنية دين رحمة وعطاء وكرم وسخاء، والله عفو رحيم يقبل التوب من التائبين. لا ذكر لعذاب أو عقاب في الأغنية، بل فيها كل ما يبهج وينتشي به القلب كما لو كان قد ارتوى من كؤوس العشق والهوى.
ويقول كتاب “الإسلام الشعبي: الإيمان، الطقوس النماذج”، وهو من إعداد مركز “المسبار للدراسات والبحوث” إن “الإسلام الشعبي قدم مشروعاً موازياً للإسلام التقليدي ذي الطبيعة الصارمة، فيأتي ليكمل المرجعيات التقليدية كالأزهر الشريف، وجامع الزيتونة، بمرجعيات روحية مثل الأولياء والصالحين والدراويش والأساطير، مركزاً على الممارسات الدينية الشعبية بدل التركيز على المؤسسات الدينية التقليدية في الإسلام، فيعيد تأويل النصوص لصالح الممارسة”.
ويقول الكتاب أيضاً إن “الإسلام الشعبي يختزن مجموع التصورات الدينية والطقوسية والشعائرية مثل الموالد والطهور والحفلات وزيارة الأولياء والتصوّف الشعبي وصنوف الاعتقاد، وهو ممارسة تلقائية وعفوية للشعائر بعيدة عن الرقابة الرسمية والمؤسساتية، وهذا النمط من التدين الإسلامي مفتوح على العالم والثقافات وغير صدامي”.
وهذا التصور البهيج غير الصدامي للدين، الذي تحلق فيه الحمائم في سماء صافية حول الكعبة، والذي يتقرب فيه الحجيج لرب غفور رحيم يقبل التوب، هو ما تصوره “القلب يعشق كل جميل”.
ولعلها لهذا التصور الذي تملؤه السكينة والرضى للدين تخلد في ذاكرتنا الجمعية، وتبقى صنواً لحلم الحاج في أن يروى عطش روحه برؤية الكعبة ولرجائه أن يغفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه بعد الحج.
يقول المعارض السوري سلمان المسعودي :” لن يذرف السوريون، مهما بلغ بهم الحال، دمعة واحدة من أجل هذا النظام، ولن يبقى في ذاكرة الأجيال وإلى الأبد، أكثر من عبارة: يلعن روحك يا حافظ.الجميع يردد هذه العبارة الآن في الاحتفالات، في المناسبات، الكهول في المقاهي، وحتى حفلات أعياد الميلاد الصغيرة في البيوت”.
مضيفا :”لقد شاهدنا أنظمة دكتاتورية تنهار، وتفرح الشعوب بزوالها، أحيانًا لمتطلبات المرحلة، وأحيانًا لانتهاء صلاحية هذه الأنظمة”.
وختم بالقول :”في الاتحاد السوفييتي، وخلف أسوار الستار الحديدي، كما وصفه ذات يوم ونستون تشرشل، انهارت المنظومة الاشتراكية الشيوعية الرهيبة، وانتفضت روسيا الاتحادية من تحت الركام والآلام”.