مرة جديدة، يفرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لكن هذه المرة ليس لحماية جنود أميركيين بل لحماية قادة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، من المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الاحتلال في قطاع غزة، في خطوة تكرس نهجه الساعي إلى تقويض العدالة الدولية وتعزيز سياسة الإفلات من العقاب في زمن الإبادة التي شاهدها العالم على مدى أكثر من عام.
وواجهت المحكمة الجنائية الدولية العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موظفيها بإعلان تمسكها بدورها في تحقيق العدالة الدولية، وسط تأييد واسع من عشرات الدول التي اعتبرت المحكمة “ركيزة أساسية في النظام القضائي العالمي”.
وجاءت العقوبات الأمريكية عقب اجتماع ترامب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان أول زعيم أجنبي يلتقيه بعد عودته إلى السلطة.
وإذا كان ترامب وصف المحكمة بأنها “غير شرعية” و”معادية لأميركا”، وأراد إيصال رسالة بأن الولايات المتحدة وحلفاءها فوق القانون الدولي، فإنه بلغ حداً جديداً من الفجاجة عندما اختار ألا تقتصر عقوباته على أعضاء المحكمة بل أن تمتد إلى أقرب أفراد عائلاتهم وكل من قدم مساعدة في تحقيقات المحكمة، مكرساً سياسة العقاب الجماعي والانتقام الأعمى التي ينتهجها منذ عودته إلى البيت الأبيض.
وكانت المحكمة قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق نتنياهو بتهم تتعلق بجرائم حرب مزعومة في غزة، إضافة إلى مذكرة مماثلة بحق قائد في حركة حماس، وهو ما قوبل برفض أمريكي وإسرائيلي حاد.
وتعدّ المحكمة الجنائية الدولية الهيئة القضائية الوحيدة عالميًا المخولة بمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلا أن الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان الاعتراف بسلطتها، لا سيما بعد تحقيقاتها في قضايا تورط فيها مواطنون أمريكيون.
وأثار القرار الأمريكي بفرض العقوبات موجة انتقادات دولية، حيث أعربت 79 دولة – من بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا – عن رفضها للإجراءات الأمريكية، معتبرة أنها تمثل تهديدًا لمنظومة العدالة الدولية.
ومع ذلك، امتنعت دول أخرى مثل أستراليا وجمهورية التشيك والمجر وإيطاليا عن التوقيع على البيان المشترك الذي أدان القرار.ودعت المحكمة الجنائية الدولية المجتمع الدولي إلى “التكاتف دفاعًا عن العدالة والحقوق الأساسية”، مؤكدةً أنها ستواصل عملها رغم التحديات، من أجل إنصاف الضحايا الأبرياء الذين تعرضوا للفظائع حول العالم.
وكانت المحكمة قد أكدت وجود “أسباب معقولة” للاعتقاد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، إلى جانب القائد العسكري في حماس محمد الضيف – الذي قُتل العام الماضي – يتحملون مسؤولية جنائية عن “جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية” التي ارتكبت في غزة.
إلا أن البيت الأبيض اعتبر أن إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين وقادة من حماس في الوقت ذاته يشكل “معادلة أخلاقية معيبة”، فيما وصف الأمر التنفيذي لترامب المحكمة بأنها تهديد لـ”سيادة الولايات المتحدة”، معتبرًا أن إجراءاتها “تقوض الأمن القومي الأمريكي” وتعرقل سياسات واشنطن الخارجية.
هذا ولم تُعلن واشنطن بعد قائمة المسؤولين المستهدفين بالعقوبات، لكن من المتوقع أن تشمل العقوبات قيودًا مالية وقيودًا على التأشيرات تطال موظفي المحكمة وعائلاتهم.
كما حذر مراقبون من أن العقوبات قد تؤثر على عمل المحكمة وجمع الأدلة، وهو ما قد يثني الضحايا عن تقديم شهاداتهم.
وأكد المدعي العام الأول للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، أن الرد الدولي على هذه العقوبات سيكون حاسمًا، متسائلًا: “هل ستسمح الدول الأعضاء، بما في ذلك أوروبا والمملكة المتحدة وجنوب إفريقيا والأرجنتين والبرازيل واليابان وأستراليا، لترامب بأن يصبح الرئيس العالمي؟”.
ودعت الأمم المتحدة إلى التراجع عن العقوبات، بينما شددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على ضرورة أن تواصل المحكمة الجنائية الدولية جهودها لمحاربة الإفلات من العقاب على مستوى العالم.
في المقابل، رحّب وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بقرار ترامب، واصفًا المحكمة بأنها “غير أخلاقية وتفتقر إلى الأسس القانونية”، متهمًا إياها بالتحرك “بما يتناقض مع القانون الدولي”.
هذا وسبق الولايات المتحدة أن رفضت أي سلطة قضائية للمحكمة الجنائية الدولية على مسؤوليها أو مواطنيها، متهمة إياها بتقييد “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
وفي سابقة مماثلة، فرض ترامب خلال ولايته الأولى عقوبات على مسؤولين في المحكمة كانوا يحققون في انتهاكات محتملة للقوات الأمريكية في أفغانستان، شملت تجميد الأصول وفرض حظر سفر على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة، قبل أن تُرفع تلك العقوبات في عهد الرئيس جو بايدن.
إلا أن بايدن نفسه، رغم رفعه للعقوبات السابقة، انتقد في أيامه الأخيرة في منصبه مذكرة اعتقال نتنياهو، واصفًا القرار بأنه “معيب”، ومؤكدًا أنه “لا مجال للمساواة بين إسرائيل وحماس”.
وأطلقت تسع دول، من بينها جنوب إفريقيا وماليزيا، “مجموعة لاهاي” للدفاع عن المحكمة وأحكامها، في خطوة لمواجهة محاولات تقويض سلطتها،.
وجاءت هذه التطورات في وقت أعلن فيه ترامب خطة مثيرة للجدل تهدف إلى “السيطرة على غزة”، وإعادة توطين الفلسطينيين خارجها، وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، في خطوة أثارت موجة استنكار دولية واسعة.