على عكس الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة، تعاني الدول النامية مثل جمهورية مصر العربية من دوامة الديون وفوائدها المرتفعة، حيث بلغ إجمالي الدين (الخاص والعام) للاقتصادات النامية 29 تريليون دولار في نهاية عام 2023، أي ما يعادل 206% من ناتجها المحلي الإجمالي، وفقاً لـ”الأونكتاد”.
تجاوز الدين العام العالمي 100 تريليون دولار بنهاية عام 2024، وفقًا لصندوق النقد الدولي، وهو أعلى من القيمة الإجمالية للأموال المسجلة عالميًا المقدرة بـ 80 تريليون دولار وفقًا لمنصة “وورلد ببيوليشن ريفيو”.
ولا تشكل الديون مصدر قلق كبير للولايات المتحدة بسبب هيمنة الدولار كعملة دولية مهيمنة. ويعود ذلك إلى قوة الاقتصاد الأميركي والأسواق المالية العميقة والسائلة، فضلاً عن الطلب الدولي على “الأصول الآمنة” واستعداد الحكومة الأميركية للعمل كمقرض الملاذ الأخير في الأزمات العالمية.
وانتقدت الأمم المتحدة في تقريرها الاقتصادي الجديد بعنوان “الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه حتى عام 2025″، الصادر في 9 يناير الجاري، إنفاق مصر على فوائد الديون بما يفوق إنفاقها على التعليم والصحة.
وأكد التقرير أن إجمالي الإنفاق على التعليم والصحة يتجاوز الإنفاق على خدمة الدين، مشيراً إلى أن فوائد ديون الدولة ستستنزف أكثر من 70% من إجمالي العائدات الحكومية لعام 2024.
ووصف التقرير أزمة الديون بأنها تمثل خطراً كبيراً على آفاق التنمية في الدولة الإفريقية.
ويرى خبراء اقتصاد أن أهم أبطال ازمة الديون الخارجية في مصر تلك الأحداث والثورات التي ضغطت على الاقتصاد المصري منذ عام 2011 وحتى يومنا هذا.
إذ يقول الدكتور عبدالمنعم السيد مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية إن الاقتصاد المصري مر بفترات عصيبة منذ عام 2011، واندلاع أحداث الثورة أعقبها الخلل الكبير الذي خلفه حكم الإخوان لمدة عام، كذلك التأثيرات المباشرة لجائحة كورونا وصولا لحرب أوكرانيا.
لافتا إلى أن كل هذه العوامل ضغطت على الاقتصاد وعلى فاتورة الاستيراد التي تضاعفت خلال تلك السنوات، ما دفع الحكومات المتعاقبة للاقتراض.
وعلى الجانب الآخر، انتقد الكاتب والمحلل الاقتصادي أحمد السيد النجار السياسات الاقتصادية في عهد الرئيس السيسي، مشيراً إلى تراجع الإنفاق على التعليم والصحة إلى 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ4% قبل تولي السيسي الحكم في العام المالي 2014/2013.
وأكد النجار أن الديون الخارجية زادت بنسبة 257% خلال فترة حكم الرئيس السيسي، لتصل إلى 164.7 مليار دولار بنهاية يونيو 2023، بينما ارتفعت الديون الداخلية بنسبة 358% لتصل إلى 8.3 تريليونات جنيه.
وأشار النجار في مقال نشره بعنوان “هل كانت مصر ‘أي حاجة’ وحوّلها السيسي إلى بلد؟!” إلى أن هذه الزيادة الكبيرة في الديون أصبحت أحد العوامل الرئيسية المغذية للتضخم، مما يزيد من التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر حالياً.
ويتوقع صندوق النقد أن ترتفع الديون إلى مستوى يعادل 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030.
وتشكل ديون الولايات المتحدة الجزء الأكبر من هذه الديون، حيث بلغت 36 تريليون دولار في عام 2024، أي ما يعادل 34.6% من الإجمالي العالمي، استنادًا إلى بيانات وزارة الخزانة الأميركية.
وعلى الرغم من تحذير وزيرة الخزانة الأميركية السابقة جانيت يلين في يناير/كانون الثاني 2023 من مخاطر استمرار ارتفاع الديون، إلا أن الحكومة الأميركية واصلت الاقتراض لتصل الديون إلى 36.2 تريليون دولار وقت كتابة هذا التقرير.
ورغم مستويات الدين المرتفعة، لا تزال الولايات المتحدة أكبر اقتصاد عالمي، حيث نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.8% في عام 2024 مقارنة بـ 2.9% في عام 2023، مدفوعًا بزيادة الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار والإنفاق الحكومي والصادرات.
على النقيض من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، تعاني العديد من دول العالم الثالث، بما فيها دول عربية كبرى مثل مصر والمغرب والأردن وتونس، من دوامة الديون وفوائدها المرتفعة التي تستنزف نسبة كبيرة من ناتجها المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى ديون هذه الدول ضئيلة مقارنة بديون الولايات المتحدة.
فعلى سبيل المثال ووفقًا لشركة “فيجيوال كابيتاليست” استنادًا إلى بيانات صندوق النقد الدولي:بلغت ديون مصر 340.5 مليار دولار في عام 2024، أي ما يعادل 0.3% فقط من الدين العام العالمي.
بلغ دين المغرب 107 مليارات دولار (0.1% من الدين العالمي).بلغ دين الأردن 49 مليار دولار.
وتطرح عدة تساؤلات عن الاقتصاد العالمي: كيف تزدهر أميركا رغم ديونها العالية؟ ولماذا تعاني الدول النامية في سداد فوائد ديونها؟ وهل تُستخدم الديون كأداة للهيمنة الاستعمارية على مقدرات الدول، خاصة في أفريقيا وآسيا؟
رغم الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فإنهما يتشاركان تجاهلاً لافتًا لمسألة الديون والعجز، بحسب البروفيسور مارك كوبيلوفيتش من جامعة ويسكونسن، في مقال نشره على منصة “إنترإيكونوميست”.
على مدار عقود، كانت فكرة أن الدين الفيدرالي يشكل أزمة وطنية حاضرة في النقاشات السياسية الأميركية. ففي الثمانينيات، بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 40%، وفي التسعينيات 60%، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وصلت إلى 100%، أما الآن، فقد بلغت النسبة 120%، ويتوقع مكتب الميزانية بالكونغرس أن تصل إلى 166% بحلول عام 2054.
وعلى الرغم من مستويات الديون الأميركية المرتفعة تاريخياً، التي تتجاوز حتى مستويات الحرب العالمية الثانية، تستمر الحكومات الأميركية المتعاقبة في الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة دون أن تتحقق التوقعات بحدوث تضخم مفرط أو أزمة اقتصادية.
ويرى كوبيلوفيتش أن فكرة أن الولايات المتحدة تواجه أزمة مالية وشيكة مثل تلك التي تعانيها الدول النامية تعد خطأً. ورغم ذلك، لا تخلو الديون الأميركية من تكاليف حقيقية، مثل أقساط الديون والمقايضات السياسية المستقبلية.
كما أن البدائل المحتملة، مثل اليورو أو اليوان، لا تُشكل تهديداً حقيقياً للدولار في المستقبل القريب، وفقاً للبروفيسور مارك كوبيلوفيتش.وتمكن هيمنة الدولار الولايات المتحدة من تمويل نفسها بقيود أقل مقارنة بأي دولة أخرى.
ورغم أن مستويات الديون المرتفعة قد تشكل تحدياً مستقبلياً، فإن اعتبار الدين الأميركي “غير قابل للاستمرار” يعد خطأً تصنيفياً على ما يذكره الكاتب.
وعلى سبيل المثال، نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان تبلغ 250%، وهي تقترض بأسعار فائدة منخفضة، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة، التي تواجه نسبة أقل بكثير، ليست بحاجة للقلق المفرط بشأن ديونها، وفقاً لكوبيلوفيتش.
وتمتلك الولايات المتحدة أكبر اقتصاد عالمي، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي 29.17 تريليون دولار في عام 2024، وهو ما يمثل 25.95% من الاقتصاد العالمي، وفقاً لمنصة ستاتيستا.
وتسيطر الشركات الأميركية العابرة للقارات، خاصة شركات التكنولوجيا، على قائمة أكبر الشركات العالمية، حيث تضم 8 من أكبر 10 شركات في العالم من حيث القيمة السوقية، وفقاً لمنصة “كومبانيز اركت كاب”.
كما أن الولايات المتحدة تضم أكبر سوق أوراق مالية في العالم، ومن المتوقع أن تصل قيمتها السوقية إلى 54.88 تريليون دولار بحلول عام 2025، وفقاً لمنصة ستاتيستا، مما يعزز مكانتها كأكبر قوة اقتصادية عالمية.
وصف تقرير للأمم المتحدة في أغسطس/آب 2023 أزمة الديون العالمية بأنها “كارثة تنموية تغذيها أزمة ديون ساحقة”، مشيرًا إلى أن نصف البشرية (3.3 مليار إنسان) يعيشون في بلدان تنفق على أقساط فوائد الديون أكثر مما تنفقه على التعليم أو الصحة.
ورغم ذلك، تُعتبر هذه الديون غير مؤثرة على النظام المالي العالمي لتركزها في بلدان فقيرة، وهو ما وصفه التقرير بـ”السراب”، مؤكداً أن هذه الأزمة تشكل فشلاً منهجياً على المستوى العالمي.
تعاني 48 دولة نامية من إنفاق حكوماتها على فوائد الديون أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة، مما يؤثر سلباً على إنتاجية الشعوب والاستثمار في البنية التحتية. ويعد هذا مصدر قلق كبير يهدد مستقبل الأجيال.
وفقاً لتقرير الأمم المتحدة، تعكس أزمة الديون الحالية “ديناميكيات القوة الاستعمارية” المضمنة في النظام المالي العالمي المتقادم، الذي فشل في تقديم شبكة أمان لمساعدة الدول على مواجهة الصدمات مثل الأوبئة، أزمات المناخ، والحروب.
وبينما يمكن أن تكون الديون أداة للتنمية، فإنها تتحول إلى فخ يولد المزيد من الديون عندما تضطر الدول للاقتراض فقط من أجل البقاء الاقتصادي.