في مايو 2023، شهدت قرى مركز ساحل سليم بمحافظة المنيا حدثًا مفصليًا بإلقاء القبض على محمد محسن محسوب (32 عامًا) المُلقب بـ”جزار ساحل سليم”، بعد مسيرة إجرامية امتدت 8 أعوام شملت جرائم القتل والخطف والسطو المسلح. تُظهر التحقيقات الأولية تورط المتهم في 17 جريمة قتل و32 حالة إصابة بجراح و12 عملية خطف مقابل فدية. ما يلفت النظر في القضية تفاصيل فراره النادر من السجن المركزي بالمنيا عام 2020، واستخدامه لمنصات التواصل الاجتماعي لاستعراض جرائمه.
الخلفية الاجتماعية والبدايات الإجرامية
النشأة في بيئة طائفية معقدة
وُلد محسوب في قرية نائية تابعة لمركز ساحل سليم، حيث تشير تقارير أمنية إلى أن المنطقة شهدت صراعات طائفية متكررة خلال العقد الماضي ساهمت في تغذية العنف. التحق بمركز تدريب مهني لدراسة السباكة عام 2012، لكن مصادر محلية تؤكد تحوله السريع نحو عالم الجريمة المنظمة بدءًا من 2015 عبر الاتجار بالمخدرات.
التشكيل الأولي للعصابات
تشير محاضر التحقيق إلى قيام محسوب بتشكيل أول مجموعة إجرامية عام 2017 مع 6 عناصر، تخصصت في سرقة السيارات النقل المحملة بالبضائع على الطرق الصحراوية. تطوّر النشاط الإجرامي للمجموعة عام 2019 ليشمل خطف أصحاب المحاجر مقابل فديات تصل إلى مليون جنيه مصري حسب بلاغات الضحايا.

تفاصيل الهروب من السجن وتصعيد الجرائم
ثغرات أمنية في السجن المركزي
تمكن المحكوم عليه من الفرار في مارس 2020 خلال أحداث شغب استغلها السجناء، حيث كشفت تحقيقات لاحقة عن وجود شبكة فساد داخلية سهلت الهروب مقابل رشاوى مالية. خلال عامي الهروب (2020-2022)، ارتكبت عصابته 14 جريمة قتل منها 5 حالات إعدام ميداني لضحايا رفضوا دفع الإتاوات.
استراتيجيات التمويه والاختباء
اعتمدت العصابة على نظام معقد للاختباء في المزارع النائية ومغارات جبال المقطم، مع استخدام سيارات مسروقة مزودة بألواح ترخيص مقلدة. اللافت استخدامهم تقنيات مراقبة لاسلكية متطورة لتعقب تحركات قوات الأمن، حسب ما ورد في محضر نيابة أمن الدولة.
التحول نحو الجرائم الإلكترونية والاستعراض
توظيف منصات التواصل الاجتماعي
أظهرت تحقيقات الأمن الوطني قيام محسوب بإنشاء حسابات وهمية على “فيسبوك” و”تيك توك” تحت أسماء مستعارة مثل “ابن البلد” و”الأسد المتأهب”، حيث نشر مقاطع مصورة لجرائم خطف واعتقالات وهمية لابتزاز الضحايا. بلغت قيمة الفديات الإلكترونية المسجلة 4.5 مليون جنيه من 9 حالات بين 2021-2022.
تكتيكات التضليل الإعلامي
استغل المتهم الأحداث السياسية الكبرى مثل الانتخابات الرئاسية لتكثيف جرائمه خلال فترات انشغال الأجهزة الأمنية. صرح مصدر أمني
رفيع المستوى لـ”الأهرام” أن العصابة استخدمت طائرات مسيرة معدلة لمراقبة تحركات القوات.

العملية الأمنية الكبرى والإطاحة بالعصابة
عملية “صائد الذئاب” المتكاملة
شاركت 7 وحدات أمنية متخصصة في الحملة التي استمرت 88 يومًا، اعتمدت على:
نظام مراقبة جوي باستخدام طائرات “سكان إيجل” المجهزة بكاميرات حرارية
فرق استخباراتية متنكرة في هيئة باعة متجولين
تحليل بيانات الاتصالات من 153 محطة تقوية
تفاصيل الاعتقال التاريخي
تم القبض على محسوب في مخبأ تحت أرضية إسطبل بقرية أبو خشبة، حيث عُثر معه على:
7 أسلحة نارية منها رشاش “كلاشنكوف”
43 طلقة حية
4 هواتف محمولة مع شريحتين فضائيتين
2.3 مليون جنيه نقدًا
التداعيات المجتمعية والقضائية

ردود فعل الأهالي المتناقضة
فيما هنأ سكان القرى المجاورة القوات الأمنية، أطلق أهالي قرية المحكوم عليه عيارات نارية في الهواء حدادًا، أثارت القضية جدلًا واسعًا حول ظاهرة “تأليه المجرمين” في المناطق الريفية.
الجدل الحقوقي حول ظروف الاعتقال
نشرت “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا يشير إلى استخدام التعذيب لانتزاع اعترافات، بينما نفت النيابة العامة هذه المزاعم، مؤكدة وجود كاميرات مراقبة في غرف التحقيق. من المقرر أن تستأنف المحكمة جلساتها في 15 مارس 2024 مع 37 شهيرًا للشهادة.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
خسائر قطاع المحاجر
تشير إحصائيات غرفة صناعة مواد البناء إلى انخفاض إنتاج محاجر المنيا بنسبة 42% خلال فترة نشاط العصابة، نتيجة توقف 67% من العمال عن العمل خوفًا من العمليات الإجرامية.
ظاهرة الهجرة الداخلية
أدت الأحداث إلى نزوح 132 عائلة من القرى الأكثر تعرضًا للتهديدات، حسب سجلات الوحدة المحلية لمركز ساحل سليم. يقول الخبير الاجتماعي د.عماد عبدالغني: “القضية كشفت عن خلل في شبكات الحماية المجتمعية بالمناطق شبه الحضرية”.
الجوانب القانونية والإجراءات التشريعية
تعديلات على قانون مكافحة العصابات
أثارت القضية نقاشًا برلمانيًا حول مشروع قانون يُجرم متابعة حسابات المجرمين الإلكترونية، مع فرض غرامات تصل إلى 500 ألف جنيه على المنصات التي لا تزيل المحتوى الإجرامي خلال 24 ساعة.
تحليل البصمة الجنائية
كشف تقرير الطب الشرعي عن وجود 7 بصمات مختلفة للمتهم في مسارح الجريمة، باستخدام تقنية “بصمة العرق” الحديثة التي تعتمد على تحليل الإفرازات الجلدية.
التغطية الإعلامية والسينمائية
سباق إنتاج الأعمال الفنية
أعلنت 3 شركات إنتاج عن مشاريع درامية مستوحاة من القضية، بينما طالبت النيابة العامة بوقف أي أعمال فنية حتى انتهاء المحاكمات. من المقرر طرح فيلم “الكدبة الكبيرة” من بطولة محمد رمضان في 2025، رغم احتجاجات أسرة المحكوم عليه.
التحليل الإعلامي المقارن
يرى د.خالد منتصر، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة: “التغطية الإخبارية للقضية تجاوزت الحدود المهنية، حيث تحولت بعض الوسائل إلى منصات للترويج الإشهاري عبر التغطية المبالغ فيها”.
دروس مستفادة ومستقبل مكافحة الجريمة
تكشف قضية محمد محسوب عن تفاعل معقد بين الفقر المدقع والفساد الإداري وانتشار الأسلحة غير المشروعة. بينما تشير التقديرات الأمنية إلى انخفاض جرائم العنف بنسبة 38% في المنيا خلال النصف الأول من 2024، تبقى التحديات قائمة في معالجة الجذور الاجتماعية للجريمة المنظمة.
“العنف الإجرامي ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات لسياسات إقصاء اجتماعي متراكمة” – د.منى عبدالفتاح، الخبيرة في علم الجريمة.