تشهد العلاقات الأمريكية-الأوكرانية تحولاً جوهرياً يُنذر بإعادة تشكيل التحالفات الإستراتيجية في أوروبا الشرقية.
فبعد سلسلة من الاتصالات المكثفة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، انفجرت أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع تصعيد ترامب لهجماته اللفظية ضد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، واصفاً إياه بـ”الديكتاتور” ومتهماً إياه ببدء الحرب مع روسيا. من جانبه، رد زيلينسكي باتهام ترامب بالعيش في “فضاء مضلل أنتجته روسيا”.
هذه التطورات تطرح تساؤلات حول مستقبل الدعم الغربي لأوكرانيا ومدى تأثير الدبلوماسية الأمريكية الجديدة على مسار الصراع.
الخلفية التاريخية: من التحالف إلى التصادم العلاقة المشحونة بين ترامب وزيلينسكي: جذور الأزمة تعود جذور التوتر الحالي إلى الفترة الأولى لرئاسة ترامب (2017-2021)، حيث اتسمت العلاقة بين الزعيمين بعدم الثقة المتبادلة.
ففي عام 2019، حاول ترامب ابتزاز زيلينسكي عبر حجب المساعدات العسكرية عن أوكرانيا مقابل فتح تحقيق فاسد ضد منافسه جو بايدن، مما أدى إلى أول عملية عزل لترامب.
على الرغم من ذلك، حاول زيلينسكي الحفاظ على علاقة عمل مع الإدارة الأمريكية، خاصة بعد عودة ترامب للبيت الأبيض في يناير 2025.
إلا أن التصريحات الأخيرة تكشف عن تصدع عميق في هذه العلاقة، يعكس اختلافاً جذرياً في الرؤى الإستراتيجية.
التحول في السياسة الأمريكية تجاه الحرب الأوكرانية تبنت إدارة ترامب الثانية نهجاً مغايراً للسياسة الخارجية التقليدية، مع التركيز على خفض الالتزامات العسكرية الخارجية.
فبعد أشهر من توليه المنصب، أعلن ترامب عن نيته إنهاء الحرب عبر مفاوضات مباشرة مع موسكو، مستبعداً كييف من طاولة الحوار في مفاوضات الرياض فبراير .
هذا التحول يعكس رؤية ترامب القائمة على “أمريكا أولاً”، والتي تتعارض مع الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا.
تصعيد التصريحات: ترامب يهاجم شرعية زيلينسكي اتهامات “الديكتاتورية” وتأجيل الانتخابات في 19 فبراير 2025، نشر ترامب منشوراً على منصة “تروث سوشيال” وصف فيه زيلينسكي بـ”الديكتاتور بلا انتخابات”، متهماً إياه بإدارة حرب “لا يمكن الفوز بها”.
كما زعم ترامب أن أوكرانيا بدأت الصراع مع روسيا، متجاهلاً وقائع الغزو الروسي في فبراير 2022. هذه التصريحات تعكس تبني ترامب لرواية الكرملين، التي تبرر الحرب كرد على التوسع الغربي.
من الناحية القانونية، أرجأت أوكرانيا الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو 2024 بسبب الأحكام العرفية المفروضة منذ بداية الحرب، وهو إجراء دستوري مشابه لما حدث في دول مثل بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
إلا أن ترامب يستغل هذا السياق لزعزعة شرعية زيلينسكي، مدعياً أن شعبيته “لا تتجاوز 4%”8، بينما تشير استطلاعات معهد كييف الدولي إلى ثقة 50% على الأقل من الأوكرانيين بزعيمهم.
ردود الفعل الأوكرانية: بين الدفاع عن الشرعية وتحذيرات الخيانة رد زيلينسكي على الاتهامات الأمريكية بتأكيد أن ترامب “وقع في فخ الدعاية الروسية”، مشيراً إلى أن أي تسوية مع موسكو دون ضمانات أمنية ستقوض استقلال أوكرانيا.
كما حذر وزير الخارجية دميتري كوليبا من أن “لا أحد يمكنه إجبار أوكرانيا على الاستسلام”.
في المقابل، أظهرت تصريحات الصحفية الأوكرانية ديانا بانتشنكو إشادة غير متوقعة بانتقادات ترامب، حيث رأت فيها فرصة للإفراج عن السجناء السياسيين.
التداعيات الإقليمية والدولية: انقسام الغرب وصعود النفوذ الروسي الانتقادات الأوروبية: دفاع عن الديمقراطية الأوكرانية واجهت تصريحات ترامب إدانة واسعة من القادة الأوروبيين.
فوصف المستشار الألماني أولاف شولتز الاتهامات بـ”الخطيرة وغير الدقيقة”، بينما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ضرورة إشراك كييف في أي مفاوضات.
من جهتها، شبهت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بين الوضع في أوكرانيا والديكتاتوريات الحقيقية مثل روسيا وبيلاروسيا.
هذه الانتقادات تعكس مخاوف أوروبية من أن يؤدي تقويض شرعية زيلينسكي إلى إضعاف الجبهة الداخلية الأوكرانية، مما يعزز المكاسب الروسية الميدانية.
المفاوضات السعودية: نحو تسوية أمريكية-روسية؟ تشير التسريبات إلى أن المحادثات الأمريكية-الروسية في الرياض ركزت على خطة ثلاثية المراحل: تجميد القتال، تأجيل انضمام أوكرانيا للناتو، وفرض عقوبات على موسكو في حال الانسحاب من الاتفاق7.
لكن استبعاد كييف من هذه المفاوضات أثار شكوكاً حول نوايا ترامب، خاصة مع تأكيد المتحدث الرئاسي الروسي دميتري بيسكوف أن موسكو لم تتلقَ ضمانات أمريكية.
الآثار الإستراتيجية: مخاطر تفكيك التحالف الغربي اختبار التضامن الأطلسي يعكس التصعيد الأخير اختباراً غير مسبوق لحلف الناتو. فبينما تُصر دول مثل بولندا ودول البلطيق على دعم أوكرانيا حتى التحرير الكامل، تروج إدارة ترامب لسردية تشكك في جدوى الاستمرار بالدعم العسكري.
هذا الانقسام قد يُضعف الموقف التفاوضي الغربي، ويُعزز قدرة بوتين على فرض شروط موسكو.
مخاطر التطبيع مع الاحتلال الروسي إذا نجحت الولايات المتحدة في فرض تسوية تكرس السيطرة الروسية على الأراضي المحتلة، فإن ذلك سيشكل سابقة خطيرة في القانون الدولي، حيث يُكافأ المعتدي على حساب الضحية. كما قد يشجع ذلك روسيا على توسيع نطاق عدوانها نحو دول مثل مولدوفا أو جورجيا.
الخاتمة: مستقبل غامض وأسئلة مصيرية في ظل هذه التطورات، تواجه أوكرانيا معضلة وجودية: الاستمرار في المقاومة العسكرية مع خطر فقدان الدعم الأمريكي، أو القبول بتسوية تهدد استقلالها.
بينما يبدو ترامب مصمماً على إعادة تشكيل النظام الدولي وفق رؤيته، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن أوروبا من تعويض الفراغ الأمريكي، أم أن عصر الهيمنة الروسية على شرق أوروبا بدأ؟ الإجابة قد تحدد مصير القارة لعقود قادمة.