تفجيرات تل أبيب الأخيرة وارتباطها المعقد بصفقة تبادل الأسرى: تحليل متعدد الأبعاد
شهدت مدينة تل أبيب مساء الخميس 20 فبراير 2025 سلسلة تفجيراتٍ هزَّت ثلاثة حافلات في ضاحيتي بات يام وحولون، في حادثٍ أُطلِق عليه وصف “الهجوم الإرهابي المُنسَّق” من قبل السلطات الإسرائيلية. جاءت هذه الحادثة في توقيتٍ بالغ الحساسية، حيث تُجري إسرائيل وفصائل فلسطينية مفاوضاتٍ مُعقَّدة حول صفقة تبادل أسرى تُعتبر الأضخم منذ حرب غزة الأخيرة. هذا التقرير يُحلِّل الأبعاد الأمنية والسياسية للتفجيرات، وارتباطها الجيوسياسي بمسار الصفقة، مع تسليط الضوء على التداعيات المحتملة على الاستقرار الإقليمي.
السياق الأمني للتفجيرات: بين الرواية الرسمية والشكوك الداخلية
وفقاً للرواية الرسمية الإسرائيلية، انفجرت ثلاث عبوات ناسفة في حافلاتٍ فارغة بمنطقة بات يام، بينما تم اكتشاف عبوتين أخريين في حولون قبل تفجيرهما. اللافت أن العبوات كانت مزوَّدة بموقتات إلكترونية مشابهة لتلك المستخدمة في الضفة الغربية، مع وجود كتاباتٍ بالعربية على إحدى الحقائب تشير إلى “انتقاماً لطولكرم”. سرعان ما أعلن “الشاباك” اعتقال ثلاثة مشتبه بهم، بينهم مواطنان إسرائيليان من منطقة “غوش دان”، للاشتباه في نقل المنفذين.
الأمر الذي أثار تساؤلاتٍ حول كفاءة الأجهزة الأمنية، خاصةً مع إعلان حماس عبر “كتائب القسام” مسؤوليتها عن الهجوم كردٍّ على الاجتياحات الإسرائيلية في طولكرم. لكنَّ تحليلاتٍ أمنية إسرائيلية أشارت إلى احتمال تورط خلايا فلسطينية مستقلة، أو حتى جماعات يهودية متطرفة تسعى لتعطيل صفقة التبادل. هنا، تبرز إشكالية تصنيف الحادث: هل هو هجومٌ مقاومٌ شرعي أم عمليةٌ مُفتَعَلة لخدمة أجندات سياسية؟
البعد الداخلي: صراعات المؤسسة الأمنية والسياسية
كشفت التفجيرات عن تصدُّعٍ في العلاقة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجهاز “الشاباك”، حيث اتهم قائد شرطة تل أبيب حاييم سارجروف الجهاز الأمني بالإهمال في منع الهجوم. في المقابل، نقلت تقارير عن خلافاتٍ بين نتنياهو ورئيس “الشاباك” رونين بار حول إدارة ملف غزة، مما دفع بعض المحللين إلى تفسير الاعتقالات السريعة للمواطنين الإسرائيليين كمحاولةٍ لتحويل الانتباه عن الإخفاقات الأمنية.
من جهةٍ أخرى، استغلَّ نتنياهو الحادثة لإصدار أوامر عسكرية بتعزيز الوجود في الضفة الغربية، حيث أرسل ثلاث كتائب إضافية إلى مخيمات طولكرم وجنين. يُعتقد أن هذه الخطوة تهدف إلى إرضاء الائتلاف الحكومي اليميني المطالب بـ”سحق الإرهاب”، بينما تُجاهر المعارضة باتهام نتنياهو باستخدام الأزمة لتحسين صورته الانتخابية.
صفقة التبادل على المحك: تفجيرات تل أبيب كعامل ضغط
تزامنت التفجيرات مع الإعلان عن الدفعة السادسة من صفقة التبادل، حيث أفرجت حماس عن ستة أسرى إسرائيليين مقابل إطلاق سراح 800 أسير فلسطيني. لكنَّ الحادث أعاد الجدل حول شرط إسرائيل الأساسي في المفاوضات: “عدم مكافأة الإرهاب”، وهو ما دفع بعض الوزراء إلى المطالبة بتجميد الصفقة.
في هذا السياق، حاولت حماس توظيف التفجيرات كورقة ضغط لتعجيل تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تشمل انسحاباً إسرائيلياً من محور فيلادلفيا ووقفاً دائماً لإطلاق النار. لكنَّ الموقف الإسرائيلي ظلَّ متردداً، حيث صرَّح نتنياهو بأن “حماس انتهكت الاتفاق بعدم تسليم جثة الرهينة شيري بيباس”، مُهدداً بفرض “تكلفة باهظة” على القطاع.
التداعيات على المفاوضات: سيناريوهات مُحتمَلة
رغم التصعيد العسكري، تشير تقارير دبلوماسية إلى استمرار المحادثات السرية في الدوحة والقاهرة، بمشاركة المبعوث الأميركي غابرييل ويتكوف. يُلاحَظ أن التفجيرات لم تُؤدِّ إلى انهيار الصفقة، بل عزَّزت حاجة الطرفين إلى تحقيق مكاسب سريعة: حماس لتحسين وضعها التفاوضي، وإسرائيل لتهدئة الرأي العام المُطالِب باستعادة المختطفين.
لكنَّ الخطر الأكبر يكمن في احتمالية استخدام التفجيرات كذريعةٍ لتأجيل المرحلة الثانية من الصفقة، والتي يُفترض أن تشمل إطلاق سراح أسرى إسرائيليين كبار في السن ومرضى، مقابل إخلاء سجون الاحتلال من المعتقلين الإداريين. هنا، تُحذِّر تحليلاتٌ إسرائيلية من أن أي تأخير قد يُعيد المنطقة إلى حربٍ شاملة، خاصةً مع تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية.
الأبعاد الإقليمية: تدخُّلات دولية ومخاوف من تصعيدٍ شامل
لم تقتصر تداعيات التفجيرات على المستوى الداخلي، بل امتدت إلى المحافل الدولية. فمن ناحية، سارعت مصر وقطر إلى الدعوة لتهدئة الأوضاع، خشيةَ انعكاسها على استقرار عملية التبادل. ومن ناحيةٍ أخرى، استغلَّت إسرائيل الحادثة لتوجيه رسالة إلى الإدارة الأميركية بضرورة دعم عملياتها العسكرية، خاصةً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتصاعد النقد الدولي للانتهاكات الإسرائيلية.
في هذا الإطار، برز دور المبعوث الأميركي ويتكوف كوسيطٍ حيوي، حيث ضغط على الجانبين لتجنُّب الانهيار الكامل للصفقة. لكنَّ التعقيد الأكبر يتمثل في الموقف الروسي والصيني، اللذين عبَّرا عن قلقهما من استخدام التفجيرات كذريعةٍ لتهجير الفلسطينيين، في إشارةٍ إلى تصريحاتٍ سابقة لترامب حول “الحل النهائي”.
الخاتمة: بين سندان التفجيرات ومطرقة الصفقة
تُظهِر تفجيرات تل أبيب الأخيرة مدى هشاشة الوضع الأمني في المنطقة، وقدرة الأحداث المحلية على إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية. فمن ناحية، نجحت حماس في توظيف الحادث لدعم سردية “المقاومة الفاعلة”، بينما استفاد نتنياهو منها لتعزيز شرعيته الداخلية كـ”زعيم أمني”. لكنَّ السؤال الجوهري يبقى: هل ستكون هذه التفجيرات شرارةً لحربٍ جديدة، أم فرصةً لإنقاذ صفقةٍ إنسانيةٍ قد تُخفف من معاناة آلاف الأسر؟
الإجابة تعتمد على مدى نضوج الأطراف المعنية لإدارة الأزمة بعيداً عن الحسابات الضيقة. التاريخ يُعلِّمنا أن العنف يُنتج المزيد من العنف، فيما التفاوض الواقعي -رغم صعوبته- يبقى السبيل الوحيد لكسر الحلقة المفرغة.











