المواجهة التاريخية بين زيلينسكي وترامب: بين الشجاعة السياسية وثمن الفرص الضائعة
في مشهدٍ نادرٍ يجسد تعقيدات الدبلوماسية الدولية وصراعات القوة، شهد البيت الأبيض في 28 فبراير 2025 مواجهةً كلاميةً استثنائية بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، لم تخلُ من الاتهامات المتبادلة والتهديدات الصريحة. هذه الحادثة، التي انتهت بمغادرة زيلينسكي المبكرة للمكتب البيضاوي دون توقيع الاتفاق المُنتظر حول المعادن النادرة، أثارت تساؤلاتٍ جوهرية حول طبيعة العلاقات الثنائية في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، وفنون التفاوض في عالمٍ تسوده المصالح المتضاربة.
السياق التاريخي: علاقة مُتقلبة في ظل حرب وجود
جذور التحالف الهش بين واشنطن وكييف
منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2022، اعتمدت أوكرانيا بشكلٍ شبه كلي على الدعم العسكري والمالي الغربي، حيث قدمت الولايات المتحدة وحدها مساعداتٍ تجاوزت الـ 350 مليار دولار. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، بدأت ملامح تحوّلٍ جذري في الاستراتيجية الأمريكية؛ فبدلًا من سياسة “الاحتواء” التي اتبعها سلفه جو بايدن، أعلن ترامب عن نيّته إنهاء الحرب عبر مفاوضاتٍ مباشرة مع الكرملين، مُستندًا إلى اتفاقٍ مبدئي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 12 فبراير 2025.
هذا التحوّل وضع زيلينسكي في مأزقٍ وجودي: فمن جهة، يُدرك أن الدعم الأمريكي حيوي لبقاء بلاده، ومن جهةٍ أخرى، يرفض التنازل عن الأراضي المحتلة أو قبول سلامٍ يُكرّس الهيمنة الروسية. هذه المعادلة الصعبة تجلّت بوضوح خلال الزيارة الأخيرة، حيث سعى الزعيم الأوكراني إلى إقناع ترامب بضرورة استمرار الدعم مقابل اتفاقيةٍ تمنح واشنطن حقوقًا استثنائية في استغلال ثروات أوكرانيا من المعادن النادرة، والتي تُقدّر قيمتها بأكثر من 524 مليار دولار.
ترامب وفن الصفقات: الضغط كأداة تفاوض
يتميز أسلوب ترامب التفاوضي بالاعتماد على “استراتيجية الصدمة”، حيث يستخدم التهديدات العلنية والخطاب الحادّ لفرض شروطه. فخلال اللقاء، لم يتردد في توجيه اتهاماتٍ مباشرة لزيلينسكي بـ”عدم الامتنان” و”المقامرة بإشعال حربٍ عالمية ثالثة”، مُستغلًا ورقة الضعف الأوكرانية – نقص الجنود والموارد – لممارسة ضغطٍ غير مسبوق. بلغة الأرقام، أكد ترامب أن أوكرانيا خسرت ما يقارب 50% من قواتها العسكرية، وهو ادعاءٌ يعكس محاولةً لتفكيك الرواية الأوكرانية حول الصمود البطولي.
تفاصيل المواجهة: مشهدية الصراع وانزياحات الخطاب
من التحية إلى التوبيخ: سردية اللحظة الفاصلة
بحسب التقارير التفصيلية، بدأ اللقاء بتبادلٍ دبلوماسي معتاد، لكنه سرعان ما تحوّل إلى سجالٍ علني بعد أن انتقد ترامب إصرار زيلينسكي على رفض وقف إطلاق النار، قائلًا:
“بلادك في ورطة، وأنت لا تنتصر في الحرب… عليك أن تكون ممتنًا وتوافق على السلام”.
ردّ الزعيم الأوكراني بمحاولةٍ لاستعادة المبادرة عبر التذكير بتضحيات شعبه:
“نحن ندفع ثمن الحرية كل يوم، والسلام دون عدالة هو استسلام”.
لكن ترامب، المعروف باحتقاره للخطابات العاطفية، قطع كلامه قائلًا:
“لقد أعطيتكم كل شيء، والآن تريدون المزيد؟ هذا يُظهر عدم احترام لأمريكا”.
ردود الفعل الدولية: انقساماتٌ تعكس صراع النفوذ
أوروبا: تضامنٌ مشروط مع كييف
سارعت الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، إلى إعلان دعمها لموقف زيلينسكي، مع تركيزٍ على “ضرورة تحقيق سلامٍ عادل”. لكنّ تصريحاتٍ سرّية لمسؤولين في الاتحاد الأوروبي كشفت عن مخاوفٍ من أن تكون المواجهة قد أضعفت الموقف التفاوضي الغربي، خاصةً مع إصرار ترامب على استبعاد الأوروبيين من المحادثات مع موسكو.
روسيا: انتصارٌ دعائي مُعلَن
لم تُخفِ موسكو ابتهاجها بالخلاف العلني، حيث علّق النائب الروسي دميتري ميدفيديف بسخرية:
“تلقت كييف صفعةً قويةً… زيلينسكي لم يفهم أن السياسة ليست مسرحًا”.
تداعيات محتملة: سيناريوهات ما بعد الأزمة
- السيناريو الأول: انهيار التحالف ومسارع السلام الروسي
- السيناريو الثاني: تصالح تكتيكي واستمرار الحرب
- السيناريو الثالث: تصعيدٌ إقليمي وخطر حرب واسعة
الخاتمة: دروسٌ من أزمة الثقة
تبيّن أن الاعتماد المفرط على الخطاب العاطفي والشعارات الوطنية لم يعد كافيًا في عالمٍ تحكمه المصالح المادية. تحتاج كييف إلى بناء تحالفاتٍ أكثر تنوعًا، مع تعزيز حضورها في أسواق السلاح العالمية عبر صناعاتٍ محلية متطورة، استنادًا إلى مواردها الهائلة من التيتانيوم والليثيوم.
من جهتها، تواجه واشنطن تحدياتٍ جسيمة في الحفاظ على مصداقيتها كحليفٍ استراتيجي، خاصةً مع تنامي الشكوك بين الحلفاء التقليديين. قرارات ترامب القائمة على النزعة الفردية قد تُعجّل بتحوّل النظام الدولي نحو تعدديةٍ قطبية، حيث تغيب القيادة الأمريكية الواضحة.
في النهاية، تُلخّص هذه الأزمة التحوّلات العميقة في النظام العالمي: صعود القادة الشعبويين، تراجع الدبلوماسية التقليدية، وتفاقم التنافس على الموارد. ربما يكون الدرس الأهم هو أن “فن الممكن” لم يعد خيارًا فحسب، بل ضرورةً للبقاء في عالمٍ لا يرحم.