تحولت التصريحات والبيانات العاصفة بين الجزائر وباريس إلى عيدان ثقاب تشعل ما تبقى من خيوط رفيعة تحكم العلاقات المثقلة بجروح الماضي والمثخنة بدماء عقود طويلة من الاستعمار الفرنسي.
ويتساءل المتابعون للمنحى التصاعدي للخلافات، عما إذا كانت العلاقات بين البلدين تتجه نحو تحول تاريخي قد ينتهي بتفكيك كل الأطر التي ظلت تحكمها منذ 1962 تاريخ استقلال الجزائر عن فرنسا؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد عتاب في ثوب أزمة؟
وعقب موجة من الردود والبيانات من الحكومة الفرنسية، دخل الرئيس إيمانويل ماكرون، على خط التصريحات واصفا اعتقال الكاتب بوعلام صنصال في الجزائر بـ”التعسفي”، مشيرا إلى أنه من الأمور التي “يجب تسويتها قبل استعادة الثقة الكاملة”، مؤكدا أن بلاده “لها الحق في مراجعة اتفاقيات الهجرة بسبب رفض الجزائر قبول جزائريين جرى ترحيلهم من فرنسا”.
واتخذت السلطات الفرنسية إجراءات منع الدخول بدون تأشيرة بحق مسؤولين جزائريين، اعتبرتها الجزائر “مخالفة لاتفاقيات الإعفاء المتبادل من التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية أو لمهمة، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى “عواقب غير محسوبة”.
ووقع البلدان على اتفاقية مشتركة، تنص على إلغاء التأشيرة لحاملي جواز السفر الديبلوماسي أو للخدمة (المهمات) في ديسمبر 2013.
شروط الاستمرار وأسباب التفكك
ويفسر رئيس الكتلة النيابية لحزب جبهة التحرير الوطني (الداعم للرئيس تبون) بالمجلس الوطني الشعبي (الغرفة الأولى للبرلمان)، ناصر بطيش، حمى الخلافات المتزايدة، برغبة الطرف الجزائري بناء علاقات على أساس “احترام السيادة والمصالح المشتركة، بدلا من الإملاءات أو الغطرسة”.
ويرى بطيش أن العلاقات بين البلدين “يجب” أن تقام على أسس “واضحة”، أهمها “الابتعاد عن التوجهات الاستعمارية القديمة في التعامل مع الجزائر، واحترام الاتفاقيات والمعاهدات لأنه واجب وليس خيار”.
ويضع المتحدث شروطا لاستمرار العلاقات الجزائرية الفرنسية، أبرزها الالتزام “روحا ونصا” بكافة التفاهمات والاعتبارات التي تحكمها، في المقابل يؤكد أن أي محاولة للمس بسيادة الجزائر من شأنها أن تؤدي إلى نتائج عكسية على مستقبل العلاقات.
ولم ترد الخارجية الفرنسية على طلب “الحرة” التعليق بشأن مسار الخلافات المتزايدة بين البلدين.
وكان رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، أكد أن بلاده ستطلب من الجزائر “مراجعة كافة الاتفاقيات الموقعة بين البلدين وطريقة تنفيذها”، ومنح الجزائر مهلة تتراوح بين شهر وستة أسابيع لإجراء هذه المراجعة.، لكن الخارجية الجزائرية أصدرت، الخميس الماضي، بيانا آخر حذرت فيه من أن أيّ مساس باتفاقية 1968 سينجرّ عنه قرار مُماثل منها.
والعلاقات بين الجزائر وفرنسا تتضمن اتفاقيات عدة، تشمل مجالات مثل الطاقة والزراعة والصناعة، وأخرى لتشجيع التبادل الثقافي والتعليمي، وأخرى في مجال الأمن ومكافحة الإرهاب لتبادل المعلومات الاستخباراتية والتدريب، فضلا عن اتفاقية الهجرة لعام 1968 التي تضمنت امتيازات التنقل والعمل والاستقرار للجزائريين.
“تعليق العلاقات”
ويعتقد الباحث في علم الاجتماع السياسي، أحمد رواجعية، أن حدة الخلاف القائم حاليا بين البلدين، بدأ يتجه نحو مستوى “غير مسبوق”، قد ينتج عنه “تعليق في العلاقات السياسية والدبلوماسية”، مستبعدا تفكيك العلاقات الذي يصل حد القطيعة، مبررا ذلك بكون “الماضي وامتداداته الحالية أقوى من الخلافات الحالية”.
ويشير رواجعية إلى ما يحدث داخل دوائر الحكم الفرنسي، مؤكدا أن اليمين “يجهل تماما ما قد تؤول إليه العلاقات الفرنسية الجزائرية على ضوء التطور السريع للفعل ورد الفعل بينهما”.
لكن المتحدث يؤكد من جهة أخرى أن الكثير من الاتفاقيات والملفات المشتركة، بما في ذلك اتفاقيات الغاز، “قد تكون محل مراجعة وإعادة نظر”، مضيفا أن هذه الخطوة ستكون “معقدة وصعبة على البلدين”، موضحا أن الجزائر تملك هي الأخرى “أدوات ضغط” من شأن استعمالها أن “يؤثر على الجانب الاقتصادي بفرنسا”.
وتحكم الجزائر وفرنسا مبادلات تجارية هامة، وصلت إلى 11.8 مليار يورو سنة 2023، وخلال نفس السنة احتفظت الجزائر بمكانتها، بصفتها ثاني أهم سوق للمبيعات الفرنسية في أفريقيا.
خلاف يمتد لسنوات
في المقابل يعتبر الإعلامي محمد إيوانوغان أن الخلافات الحالية بين البلدين من شأنها أن “تؤثر على مصالح جزائريين لكن ذلك لا يرٍقى إلى درجة الخطورة”، كما أنه لن يشمل الجزائريين المقيمين منذ سنوات بشكل قانوني بفرنسا.