قصة الشركس في سوريا
تشكل قصة الشركس في سوريا جزءا من النسيج الثقافي المعقد، الذي يجمع بين الصمود الثقافي والتاريخ المأساوي للتشرد والهجرة. في سوريا، يواجه هذا المجتمع الذي هجر قسرا من وطنه الأم في القوقاز تحديات وجودية كبيرة في ظل التحولات الجيوسياسية والحروب المستمرة.
تاريخهم في سوريا مليء بالآلام والأمل في الوقت ذاته، حيث تحولوا من ضحايا التهجير القسري إلى عنصر فاعل في البناء الاجتماعي والسياسي لسوريا.
الجذور التاريخية: من القوقاز إلى الهجرة العثمانية
تعود أصول الشركس إلى منطقة القوقاز الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين، حيث كانوا يعيشون في صراع طويل مع الإمبراطورية الروسية. بدأت مأساة الشركس مع الحملات العسكرية للقيصر بطرس الأول في 1729، وازدادت حدة الصراع مع مقاومة الإمام منصور في 1785، لتصل ذروتها في عام 1864 مع الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشركس بعد سقوط آخر معاقلهم في شمال القوقاز.
في أعقاب الهزيمة، بدأت عملية التهجير القسري لأعداد كبيرة من الشركس عبر إمبراطورية روسيا إلى مناطق مختلفة من الإمبراطورية العثمانية، وكان العديد منهم قد اختاروا الهجرة إلى سوريا بعد 1864 هروبا من المذابح التي ارتكبتها القوات الروسية. بدأت الهجرة الجماعية نحو سوريا في 1878، حيث تم توطينهم في مناطق مختلفة، مثل الجولان ودمشق وحلب.
المناطق التي استقر فيها الشركس في سوريا
في سوريا، استقر الشركس في مناطق رئيسية مثل هضبة الجولان قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، ومنطقة حلب (منبج وخناصر)، وضواحي دمشق مثل مرج السلطان. هناك تقديرات تشير إلى أن عدد الشركس في سوريا يتراوح بين 75 ألفا و100 ألف نسمة. حافظ الشركس على هويتهم الثقافية ولغتهم الأديغية رغم الاندماج في المجتمع السوري، وبرزوا في المجال العسكري والسياسي، حيث شاركوا بشكل بارز في الحروب والمجالات المهنية.
الحرب السورية والتحديات الحديثة
اليوم، يشهد الشركس تحديات وجودية تهدد هويتهم بسبب الحرب السورية المستمرة والنزوح الداخلي. تعرضت مجتمعاتهم للتشتيت، حيث فر العديد من الشركس إلى دول أخرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا، مما أدى إلى تهديد عملية الحفاظ على تراثهم الثقافي. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن مجتمع الشركس في سوريا يشهد انزياحا في هويتهم اللغوية والثقافية، حيث أصبح من الصعب الحفاظ على اللغة الشركسية بشكل فعال.
الشركس في السياسة والعسكرية
على الرغم من تحديات الاندماج الثقافي، لعب الشركس دورا هاما في السياسة والعسكرية السورية. في عام 1948، شكلوا كتيبة شركسية شاركت في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي، وحققوا العديد من الانتصارات. وقدم الشركس في الحرب 80 شهيدا. كما عملوا في مناصب عسكرية وأمنية رفيعة المستوى في الحكومة السورية.
في فترة ما بعد 1967، وتحديدا بعد الاحتلال الإسرائيلي للجولان، اضطر العديد من الشركس إلى مغادرة قراهم الأصلية والانتقال إلى دمشق وريفها. وفي السنوات الأخيرة، شهد الشركس في سوريا تغيرات في التركيبة السكانية نتيجة الهجرة القسرية في ظل الظروف الأمنية الصعبة.
الحفاظ على الهوية والتقاليد
رغم العوامل التي تهدد هويتهم الثقافية، لا يزال الشركس في سوريا محافظين على العديد من تقاليدهم وعاداتهم. من أبرز هذه العادات “أديغة خابزة”، وهو القانون الشركسي الذي ينظم العلاقات الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع. كما لا يزال الشركس يحافظون على رقصاتهم التقليدية مثل “القافة” و”الوج”، التي تميز الشباب عن الفتيات، وتظهر قوة الشاب ورجولته.
أحد الجوانب الثقافية المهمة التي يتمسك بها الشركس هو طريقة الزواج التقليدي، والتي تشمل زواج “الخطيفة” الشركسي، حيث يتفق الشاب والفتاة على الزواج، ثم يختطف الفتاة بواسطة أصدقاء الشاب وتوضع عند كبير البلدة، ليتم لاحقا عقد القران بحضور وجهاء البلدة.
الشركس في سوريا اليوم
اليوم، رغم صعوبة الأوضاع، يظل الشركس في سوريا جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي للبلاد. ومع استمرار النزاعات والهجرة، يواجه الشركس تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتهم في المهجر، وفي ظل الظروف المحلية المعقدة في سوريا.
بالرغم من التحديات، يظل الشركس في سوريا مجتمعا نابضا بالحياة، يسعى للحفاظ على تراثه الثقافي ومواجهة الصعوبات التي يمر بها. الهوية الشركسية في سوريا، المتمثلة في العادات والتقاليد واللغة، تمثل مزيجا من الصمود الثقافي والتاريخ الطويل من الهجرة والصراع.