أضافت شركة جوجل العالمية بشكل رسمي اللغة القبطية إلى تطبيق لوحة المفاتيح الافتراضية “جي بورد” الخاص بها، مما يمكّن مستخدميها من الكتابة باللغة القبطية لأول مرة منذ إطلاق التطبيق عام 2016. وتأتي هذه الخطوة ضمن تحديث أخير شمل إضافة 60 لغة جديدة، مما يمثل اعترافاً ضمنياً من شركة التكنولوجيا العملاقة بأهمية هذه اللغة التاريخية وإسهاماً في الحفاظ على التراث اللغوي المصري القديم. تعتبر هذه المبادرة خطوة مهمة في ظل الجهود المتزايدة لإحياء اللغة القبطية، التي تمثل المرحلة الأخيرة من تطور اللغة المصرية القديمة، وهي لغة تصنفها اليونسكو ضمن اللغات المنقرضة، رغم استمرار استخدامها في الطقوس الدينية للكنيسة القبطية.
نبذة تاريخية عن اللغة القبطية وأهميتها الحضارية
تعد اللغة القبطية المرحلة الأخيرة من مراحل تطور اللغة المصرية التي تكلم بها وكتبها قدماء المصريين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. وتتميز هذه اللغة بأنها صمدت أمام الاحتلال البطلمي الذي حكم مصر في الفترة من 323 ق.م إلى 30 ق.م، والذي جعل اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للبلاد. ورغم ذلك، بقيت القبطية لغة الشعب حتى في ظل تبعية مصر للإمبراطورية الرومانية وسيادة اللغة اليونانية طوال أكثر من 670 عامًا في الفترة بين 30 ق.م و641 م، وحتى دخول العرب مصر.
وفقًا للمصادر التاريخية، فإن اللغة القبطية في شكلها المكتوب الحديث ظهرت بشكل واضح حوالي العام 389 م في عهد “الإمبراطور ثيودوس”، حيث بطلت نهائيًا الكتابة الهيروغليفية والديموطيقية، واقتبس المصريون الحروف الهجائية اليونانية وأضافوا لها سبعة حروف من اللغة المصرية بالخط الديموطيقي، وذلك لعدم وجود ما يماثلها لفظيًا في الأبجدية اليونانية. وتكتب اللغة القبطية بالأبجدية القبطية، وهي شكل معدّل من الأبجدية اليونانية مع سبعة أحرف إضافية مستعارة من النص المصري الديموطيقي.
هناك رأيان بارزان حول علاقة اللغة القبطية باللغة المصرية القديمة. الرأي السائد لدى العلماء هو أن اللغة القبطية تنحدر من اللغة المصرية المتأخرة مباشرة، كما كانوا يتحدثونها في القرن السادس عشر قبل الميلاد مع بداية الدولة الحديثة. لكن هناك رأي آخر، يقدمه أبيه ماريوس شين، يذهب إلى أن اللغة المصرية واللغة القبطية كانتا متعاصرتين وموجودتين معًا منذ أقدم العصور، حيث يرى أن اللغة المصرية لم تكن لغة تخاطب وإنما مأخوذة عن القبطية – باعتبار أن القبطية هي الأصل – وقد صيغت بحيث يستخدمها الكهنة والكتبة فقط.
لهجات اللغة القبطية وانحسارها التاريخي
تنقسم اللغة القبطية إلى عدة لهجات رئيسية هي الصعيدية، والبحيرية، والأخميمية، والفيومية، والليكوبوليتانية، والأوكسيرينشية. كانت اللهجة الصعيدية منتشرة بين مدينتي أسيوط وأوكسيرينخوس، وازدهرت كلغة أدبية في جميع أنحاء مصر في الفترة ما بين عامي 325 و800 ميلادية. أما اللهجة البحيرية، وهي لغة دلتا النيل، فقد اكتسبت شهرة في القرن التاسع، وهي اللهجة التي تستخدمها الكنيسة القبطية حتى يومنا هذا.
بدأ استخدام اللغة القبطية يقل في عصر الدولة الفاطمية (972م-1171م)، حتى توقف المصريون عن التحدث بالقبطية في القرن الـ 17، أي أثناء حكم الدولة العثمانية لمصر. ومع مرور الوقت، أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرئيسية التي يتحدث بها المصريون بعد الفتح العربي لمصر، وتم استبدال القبطية ببطء على مر القرون. ونتيجة لذلك، تصنف اللغة القبطية اليوم على أنها لغة منقرضة، بحسب أطلس اليونسكو للغات العالم المهددة.
دور الكنيسة في الحفاظ على اللغة القبطية عبر العصور
كان للكنيسة القبطية دور محوري في تثبيت الأبجدية المصرية القبطية في الشكل الذي تعرف به حاليًا وتطبيع نظام هجاء الكلمات. ويعود الفضل في ذلك إلى العلامة بنتينوس، مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، الذي قام بترجمة قبطية للكتاب المقدس في عهد البابا ديمتريوس البطريرك الثاني عشر (189 – 232 م) وخلفائه.
في البداية، كان الإنجيل يُقرأ باليونانية ثم يُترجم شفاهيًا للغة القبطية، حيث لم تكن قد تمت ترجمته للقبطية بعد. ومع زيادة الحاجة إلى ترجمة مصرية قبطية مكتوبة للإنجيل، استُخدمت الأبجدية اليونانية لهذا الغرض مع إضافة بعض الحروف المصرية الديموطيقية. ومع انتشار ترجمة الإنجيل عن النسخة اليونانية المعروفة بالترجمة السبعينية (Septuagint) بين الناس، انتشرت معه الكتابة القبطية وعم استخدامها.
استمر استخدام اللغة القبطية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية كلغة طقسية، رغم انحسار استخدامها في الحياة اليومية. وفي القرن التاسع عشر، قام البابا كيرلس الرابع (1854 – 1856 م) بمحاولة لإصلاح اللغة القبطية نتيجة لتداخل اللسان العربي معها، مما أدى إلى تغيير نطق بعض الكلمات القبطية.
إضافة جوجل للغة القبطية: خطوة تكنولوجية مهمة للحفاظ على التراث
تعمل شركة جوجل دائمًا على إضافة لغات جديدة إلى تطبيق لوحة المفاتيح التابع لها Gboard، حيث أضافت الشركة مؤخرًا 60 لغة جديدة، والتي يأتي على رأسها دعم اللغة “القبطية”، إضافة إلى عدد من اللغات الأخرى مثل Mandar وBangka Malay وTai Dam. وتعتبر هذه المرة الأولى التي تتم فيها إضافة الحروف القبطية بشكل رسمي للوحة مفاتيح افتراضية، حيث سيتمكن مستخدمو “جي بورد” من الكتابة باللغة القبطية.
يعد تطبيق “جي بورد” لوحة مفاتيح افتراضية تعمل على نظامي أندرويد وiOS، أصدرته غوغل في عام 2016. وبفضل التحديث الجديد، سيكون باستطاعة مستخدمي التطبيق الكتابة باللغة القبطية لأول مرة منذ إطلاق التطبيق، الأمر الذي يمثل خطوة مهمة في جهود الحفاظ على هذه اللغة التاريخية العريقة.
تأتي هذه الخطوة من جوجل في وقت يزداد فيه الاهتمام بإحياء اللغة القبطية، خاصة مع ظهور دعوات للحفاظ على الهوية الثقافية المصرية القديمة. وتساهم هذه التطورات التكنولوجية في توفير أدوات جديدة تسهل تعلم اللغة القبطية ونشرها، مما قد يسهم في إعادة إحيائها ولو بشكل محدود.
إحياء اللغة القبطية: بين الهوية والتراث
في السنوات الأخيرة، تزايد اهتمام بعض المصريين بتعلم اللغة القبطية، حيث يسعى البعض إلى تعلمها عن بُعد للحفاظ على ما يعتبرونه هويتهم الأصلية، مستفيدين من منصات التواصل الاجتماعي وما تقدمه من خدمات مرئية ومكتوبة. وقد شجع هذا الاهتمام خبراء في اللغة القبطية على إطلاق فصول دراسية عن بُعد تقدم مادة تعليمية وحضارية للمصريين الراغبين في ترسيخ صلتهم بإرثهم اللغوي القديم، وإحياء استخدام هذه اللغة بلفظها “الأصيل”.
يدور جدل دائم، على المستويين العلمي والاجتماعي، بشأن أصل الإنسان المصري وجذوره الأولى على أرض وادي النيل، خاصة مع تأكيد بعض علماء الآثار المصريين البارزين على حقيقة أن المصريين “ليسوا عربًا أو أفارقة”، مشيرين إلى اختلافات بين المصريين من حيث “الكلام والشكل والسلوك والعادات والتقاليد” مقارنة بجيرانهم العرب.
يقول جورج سيدهم، خبير اللغة القبطية، في حوار مع بي بي سي، إن الفترة الحالية تتميز بوجود اهتمام ملحوظ لدى البعض بشأن الجذور المصرية وقراءة التاريخ الوطني بدافع الاعتزاز بالهوية. وتتزامن هذه التصريحات مع توجيه مصريين منذ سنوات اهتمامًا خاصًا بتعلم اللغة القبطية، وزيادة الإقبال على “محو الأمية القبطية” عبر منصات وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي قربت الحدود بين المتخصصين من خبراء اللغة والراغبين في تعلمها.
دور التكنولوجيا في إحياء التراث اللغوي العالمي
تمثل إضافة اللغة القبطية إلى تطبيق لوحة مفاتيح جوجل نموذجًا لدور التكنولوجيا في الحفاظ على التراث اللغوي العالمي والمساهمة في إحيائه. فرغم أن اللغة القبطية تصنف كلغة منقرضة، إلا أنها لا تزال تستخدم يوميًا كلغة طقسية في الكنائس المصرية، وهناك اهتمام متزايد بتعلمها والحفاظ عليها كجزء من الهوية المصرية القديمة.
إن اعتراف شركة عالمية مثل جوجل باللغة القبطية وإدراجها ضمن اللغات المدعومة في تطبيقاتها يعطي دفعة معنوية وعملية لجهود إحياء هذه اللغة. كما أنه يسلط الضوء على أهمية الحفاظ على التنوع اللغوي العالمي، خاصة اللغات المهددة بالانقراض، باعتبارها جزءًا من التراث الإنساني الذي يجب صونه للأجيال القادمة.
مع استمرار التطور التكنولوجي وزيادة الاهتمام بالهويات الثقافية الأصيلة، قد نشهد المزيد من الجهود لإحياء اللغات القديمة، ليس فقط كموضوع للدراسة الأكاديمية، بل كلغات حية يمكن أن تستعيد مكانتها، ولو بشكل محدود، في الحياة الثقافية المعاصرة. وتبقى تجربة اللغة القبطية نموذجًا مثيرًا للاهتمام لكيفية تفاعل التاريخ والتكنولوجيا والهوية في العصر الرقمي.