البهائيون في مصر: معاناة ممتدة على مدى عقود
يعيش البهائيون في مصر حالة من الاضطهاد المستمر منذ أكثر من ستة عقود، حيث يواجهون تمييزاً ممنهجاً يحرمهم من حقوقهم الأساسية كمواطنين مصريين. وتتعدد أوجه المعاناة التي يتعرضون لها، من عدم الاعتراف الرسمي بديانتهم إلى حرمانهم من الوثائق الرسمية، وصولاً إلى عدم تمكنهم من دفن موتاهم بكرامة. وفي ظل استمرار هذه السياسات التمييزية وتفاقمها في السنوات الأخيرة، تزداد معاناة هذه الأقلية الدينية يوماً بعد يوم.
الخلفية التاريخية والوضع القانوني
يرجع تاريخ البهائية في مصر إلى عام 1868، حيث شكّل البهائيون جماعة نشطة في البلاد خلال القرن التاسع عشر. وفي عام 1925، صدر حكم من محكمة بِبَا الشّرعيّة للاستئناف يقضي بأن “البهائيّة دين جديد قائم بذاته له عقائد وأصول وأحكام خاصّة تغاير وتناقض عقائد وأصول وأحكام الدّين الإسلاميّ تناقضًا تامًّا”.
لكن نقطة التحول الكبرى في تاريخ البهائيين في مصر كانت عام 1960، حين أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مرسوماً يحمل رقم 263 يحظر جميع الأنشطة البهائية، ويحل المؤسسات البهائية، ويصادر ممتلكاتهم، بما في ذلك المقابر. وقد رسّخ هذا المرسوم التمييز المدعوم رسمياً ضد البهائيين، مما حرمهم من حقوقهم الأساسية والاعتراف بهويتهم.
وعلى الرغم من أن الدستور المصري ينص على حرية العقيدة، إلا أن المسؤولين يترددون في الاعتراف بأي أديان غير الإسلام والمسيحية واليهودية. وقد أصدر الأزهر عدة فتاوى تعلن أن البهائية ليست ديناً معترفاً به، وأن المسلمين الذين يتبعونها يعتبرون مرتدين.
المأزق القانوني وموقف الدولة
في عام 2003، أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فتوى تعلن أن “الإسلام لا يقر أي ديانة أخرى غير ما أمرنا القرآن باحترامه، فلا ينبغي، بل يمتنع أن تكون في مصر ديانة غير الإسلام والمسيحية واليهودية لأن كل ديانة أخرى غير مشروعة ومخالفة للنظام العام”.
وفي عام 2006، قضت المحكمة الإدارية بحق البهائيين في إثبات ديانتهم في المستندات الرسمية، لكن الحكومة استأنفت هذا الحكم، وقضت المحكمة الإدارية العليا بنقضه، معتبرة أن البهائية ليست ديانة معترف بها. وبعد ذلك، في يناير 2008، صدر حكم قضائي يتيح للبهائيين الحصول على بطاقات هوية بدون تدوين أي ديانة في خانة الديانة. وفي عام 2009، تمكن البهائيون من الحصول على شهادات ميلاد تحمل علامة “-” في خانة الديانة، وهو ما اعتبر بمثابة إنجاز لأبناء هذه الديانة.
انتهاكات حقوق الإنسان والتمييز الممنهج
تعاني الأقلية البهائية في مصر من انتهاكات حقوقية متعددة الأوجه. فالسياسات الحكومية تحرم البهائيين من الحقوق المدنية وبطاقات الهوية الوطنية، وتنتهك كرامة الأسر البهائية وسلامتها من خلال ممارسات عديدة كالتفريق بين الأزواج وحرمان أعضاء الأسرة من العيش في البلاد.
كما أن نظام مصر الخاص بالبطاقات الشخصية لا يعطي للبهائيين الحق في الحصول على البطاقة الجديدة، وهي وثيقة إلزامية بموجب القانون، يستطيع الشخص من خلالها الحصول على الوظيفة والتعليم والخدمات الصحية والمالية، كما تساعده على الحركة بحرية والحفاظ على ممتلكاته.
خلق “غير المواطنين” داخل الوطن
تتسبب هذه السياسات في خلق وضع يُحرم فيه أفراد أقلية من الهوية الرسمية، مما يجعل البهائيين المصريين محرومين من الاعتراف بوجودهم، ويحولهم إلى “غير مواطنين” في بلدهم، بل قد لا يُعتبرون أشخاصاً من الناحية القانونية.
وقد تسببت هذه المشكلة للبهائيين في صعوبات كبيرة في المدارس والجامعات، وفي تسجيل شهادات الوفاة والميلاد، والإعفاء من الخدمة العسكرية. كما أنهم يواجهون التمييز الذي يمنعهم من الوصول إلى الفرص التعليمية والمهنية، إضافة إلى الضغوط المفروضة على المواطنين المصريين لقطع علاقاتهم مع أصدقائهم وزملائهم البهائيين، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع.
معاناة دفن الموتى: رحلة المتاعب الأخيرة
تُضاف إلى معاناة البهائيين في مصر مشكلة دفن موتاهم، حيث يواجهون صعوبات كبيرة بسبب عدم وجود مقابر كافية لهم في جميع أنحاء البلاد. فالمقبرة البهائية الوحيدة المتاحة حالياً في مصر تقع في حي البساتين بالقاهرة، بجوار مقابر اليهود الشهيرة هناك.
ووفقاً للتعاليم المقدسة في المعتقد البهائي، يُحرم نقل الميت أكثر من مسافة ساعة من المدينة، حيث ينص على: “حُرم عليكم نقل الميت أزيد من مسافة ساعة من المدينة، ادفنوه بالروح والريحان في مكان قريب”.. لكن واقع الحال في مصر يجبر العديد من العائلات البهائية على نقل جثامين موتاهم لمسافات طويلة، قد تصل إلى عشر ساعات أو أكثر، للوصول إلى المقبرة الوحيدة المتاحة لهم في القاهرة.
رفض تخصيص مقابر جديدة
في 27 ديسمبر 2023، قضت محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية برفض إلزام المحافظة بتخصيص أرض لاستخدامها مقابر لغير أتباع الأديان الثلاثة المعترف بها في الدولة. وقد استندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى أنه “يتعين إعلاء مصلحة المجتمع على الأفراد، لأن العقيدة البهائية مخالفة للنظام العام الذي يقوم في أساسه على الشريعة الإسلامية”.
وكان محامو “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والحريات” قد رفعوا في يناير 2021 دعوى أمام المحكمة الإدارية في الإسكندرية يطالبون فيها بإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن تخصيص أرض يستخدمها هؤلاء المواطنون كجبانة. لكن المحكمة رفضت الدعوى مستندة إلى رأي مفوضي الدولة، الذين استندوا بدورهم إلى رأي الأزهر.
المواقف الدولية وحقوق الإنسان
أثارت معاناة البهائيين في مصر اهتمام المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان. وقد عبرت الجامعة البهائية العالمية عن قلقها العميق إزاء تصعيد الاضطهاد الذي تمارسه السلطات المصرية ضد البهائيين المصريين.
واستعداداً للاستعراض الدوري الشامل المقبل لمصر في الأمم المتحدة في يناير 2025، ناشدت الجامعة البهائية العالمية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حث مصر على إنهاء التمييز والاضطهاد ضد البهائيين. وترى الجامعة البهائية العالمية أن التغييرات المطلوبة لإزالة الآثار السلبية لمرسوم عام 1960 تقع بالكامل ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية، إذ إنها تتعلق فقط بالمراسيم التنفيذية ولا تتطلب أي تعديلات تشريعية أو دستورية.
توصيات دولية وتعهدات غير منفذة
خلال الاستعراض الدوري الشامل الأخير، جددت عدة دول أعضاء في الأمم المتحدة دعوتها للسلطات المصرية لاحترام الحق في حرية الدين أو المعتقد لمواطنيها. لكن الحكومة المصرية أخفقت في تنفيذ التوصيات التي قدمت إليها خلال دورة الاستعراض الدوري الشامل السابقة قبل أربع سنوات فيما يتعلق بحرية الدين والمعتقد وحقوق البهائيين.
وصرح عمرو مجدي من منظمة هيومن رايتس ووتش بأنه: “على الرغم مما ينص عليه الدستور، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، التي تعد مصر ملزمة بها، لا يزال البهائيون، وعلى مدى عقود، في نظر الدولة المصرية غير معترف بهم”.
التطورات الأخيرة وتفاقم الأزمة
شهدت السنوات الأخيرة تفاقماً في معاناة البهائيين في مصر، حيث ترى الجامعة البهائية العالمية أن السياسات التمييزية آخذة في التفاقم، وأن السلطات المعنية في مصر ترفض وتتجاهل كافة مساعي البهائيين العديدة للوصول إلى حلول عملية لهذه الأزمة المتفاقمة.
وتؤدي هذه السياسات التي تنتهجها السلطات المصرية إلى قمع البهائيين في مصر وطمس هويتهم، وحرمانهم من الحصول على حقوقهم الأساسية كحرية المعتقد وممارسة مبادئهم وعيش حياة طبيعية كريمة مع عائلاتهم وكسب الرزق.