شهدت مقاطعة الناصر بولاية أعالي النيل في جنوب السودان هجومًا عنيفًا شنته قوات دفاع شعب جنوب السودان (SSPDF) في ساعات متأخرة من ليلة الأمس وفجر اليوم الاثنين، مما أسفر عن وقوع ضحايا من المدنيين ونزوح أعداد كبيرة.
ويأتي هذا الهجوم في سياق تصاعد التوترات بين قوات الحكومة والمدنيين المسلحين المعروفين باسم “الجيش الأبيض” الموالي لنائب الرئيس الأول رياك مشار، مما يثير مخاوف من انهيار اتفاق السلام في البلاد.
تفاصيل الهجوم على مقاطعة الناصر
بدأت الاشتباكات المسلحة في مقاطعة الناصر الحدودية مع إثيوبيا في وقت مبكر من صباح الاثنين، وسط تقارير عن إطلاق نار كثيف وقصف جوي استهدف المدينة والمناطق المأهولة بالسكان.
وأفادت مصادر محلية أن قوات دفاع شعب جنوب السودان قامت بقصف المنطقة وإضرام النيران في العديد من المباني، في أول رد فعل عسكري بعد هزيمة سابقة تلقتها هذه القوات أثناء محاولتها دخول المقاطعة قبل أسبوعين.
وفي تصريح لراديو تمازج، قال تير شول قاتكوث، أحد قادة الشباب في الناصر، إن العنف تسبب في سقوط ضحايا من المدنيين ونزوح العديد إلى المناطق المحيطة بحثًا عن الأمان.
وأضاف: “أخبرنا جنود الحكومة أمس أنه لن يكون هناك قتال، ووافقنا، وعاد السكان، لكن من القريب أنهم بدأوا صباح الاثنين في قصفنا في المدينة برشاشاتهم والطائرات”.
لم يتم بعد الإعلان الرسمي عن عدد القتلى والمصابين، حيث أكد قاتلواك ليو، محافظ مقاطعة الناصر، استمرار القتال، لكنه رفض تقديم مزيد من التفاصيل مشيرًا إلى حاجته لمزيد من المعلومات.

استخدام مواد كيميائية
وتشير مصادر لـ المنشر الاخباري عن أن القوات الحكومة استخدمت مواد يشبته أنها كميائية يطلق عليها ” أسيتات الإيثيل ” ethyl acetate” خلال المواجهات في مدينة الناصر.
وأضاف أن الطيران الأوغندي هو من قام بالإلقاء العبوات علي مقاتلي الجيش الأبيض.

الأطراف المتنازعة واتهامات متبادلة
يتواصل الصراع في مقاطعة الناصر بين قوات دفاع شعب جنوب السودان والمدنيين المسلحين المعروفين باسم “الجيش الأبيض” الموالي لنائب الرئيس الأول رياك مشار.
ويأتي هذا في سياق أزمة سياسية متصاعدة بين الطرفين منذ مطلع شهر مارس الجاري.
وبينما اتهم تير شول قاتكوث القوات الحكومية باستهداف المدنيين وتقويض جهود السلام في المقاطعة، أشار مصدر عسكري بولاية أعالي النيل إلى أن الاشتباكات اندلعت نتيجة رفض مليشيا “الجيش الأبيض” إخلاء بعض المناطق.

وقال اللواء لول رواي كوانق، المتحدث باسم قوات دفاع شعب جنوب السودان، إن الاشتباكات وقعت بالفعل في ناصر، لكنه أضاف أن السلطات لا تزال تجمع التفاصيل، مشيرًا إلى مشاكل في الاتصالات تعيق الحصول على معلومات دقيقة.
تصاعد التوتر بين سلفا كير ورياك مشار
بدأت الأزمة الحالية تتصاعد مطلع مارس 2025، عندما قام الجيش الوطني في 4 مارس باعتقال جابريل دوب، نائب قائد الجيش ورئيس أركان الحركة الشعبية لتحرير السودان-المعارضة التابعة لمشار، وفرض حصارًا على مقر إقامته.
وخلال الأيام التالية، شملت حملة الاعتقالات عددًا من الوزراء وكبار الضباط العسكريين الموالين لمشار، مما زاد من حدة التوتر داخل أروقة الحكم في جوبا.
وأشار فال ماي دينق، المتحدث باسم المعارضة، إلى أن السلطات اعتقلت وزير البترول فوت كانق شول، إلى جانب عشر قيادات سياسية وعسكرية تابعة للمعارضة.
وأكد أن سياسات الحكومة في جوبا قد تدفع الأمور نحو الانفجار مجددًا، على الرغم من أن الوضع في مدينة ناصر كان هادئًا قبل التصعيد الأخير.
التدخل الأوغندي
وسط هذا التصعيد، تشير بعض المصادر إلى احتمال مشاركة طائرات أوغندية في القصف الذي تعرضت له مقاطعة الناصر، وهي معلومات لم يتم التأكد من صحتها بعد.

لكن من المؤكد أن هناك تدخلاً أوغندياً في الأزمة الجنوب سودانية، حيث أعلن قائد قوات دفاع شعب أوغندا، موهوزي كينيروغابا، على حسابه بموقع إكس في 11 مارس الجاري، أن القوات الأوغندية موجودة في جنوب السودان لحماية الرئيس سلفاكير وتأمين العاصمة جوبا.
وأضاف موهوزي، وهو نجل الرئيس الأوغندي يوري موسفيني، أن القوات الأوغندية لا تعترف سوى بالرئيس سلفاكير، معتبرًا أن أي تحرك ضده بمثابة إعلان حرب على أوغندا.
لماذا تعتبر مدينة الناصر ذات أهمية استراتيجية؟
تعتبر مدينة الناصر، الواقعة في ولاية أعالي النيل، واحدة من النقاط الأكثر سخونة في النزاع المستمر في جنوب السودان. على الرغم من أنها ليست مدينة كبيرة أو ذات أهمية اقتصادية بارزة، إلا أن استعادتها من قبل القوات الحكومية أصبحت قضية محورية، مما يثير تساؤلات حول الأسباب التي تجعل هذه المدينة تحتل مثل هذه الأهمية الاستراتيجية.

المدينة التي كانت في السابق مجرد حامية عسكرية على أطراف ولاية أعالي النيل، أصبحت الآن محط اهتمام عسكري مكثف. تحيط بها العديد من القضايا المعقدة، من بينها التوترات بين الحكومة والمعارضة، فضلاً عن الصراع القائم بين القوات الحكومية و”الجيش الأبيض” الموالي لنائب الرئيس الأول رياك مشار.
ترتكز أهمية الناصر على موقعها الجغرافي بالقرب من الحدود مع إثيوبيا، بالإضافة إلى أنها تقع في منطقة استراتيجية تدور فيها معارك مستمرة للتحكم في الطرق التجارية والمصادر الطبيعية. ومع تصاعد التوترات، تعتبر المدينة نقطة وصل حيوية لمزيد من التحركات العسكرية سواءً من قبل الحكومة أو المعارضة.

تصريحات القيادة العسكرية: تصعيد مقلق
على الرغم من أن الناصر لم تكن في البداية تمثل موقعًا حساسًا بشكل خاص، إلا أن تصريحات القادة العسكريين تشير إلى أن هناك نية مبيتة لتصعيد الوضع. الجنرال بول نونق، رئيس الأركان في قوات دفاع شعب جنوب السودان، أعلن بوضوح أن الجيش سيستخدم كافة الوسائل المتاحة لاستعادة الناصر. وأكد أن كافة الموارد ستكون مكرسة لهذا الهدف، معربًا عن عزمه الثأر لمقتل اللواء مجور داك، الذي تم اغتياله في وقت سابق، وهو الأمر الذي كشف عن تصعيد عسكري يذهب أبعد من مجرد رد فعل على تطورات ميدانية عابرة.
تصريحات رئيس الأركان، في هذا السياق، تكشف عن نية للانتقام، وليس فقط لتحرير المدينة. هذه النية يمكن أن تؤدي إلى تصعيد أكبر في النزاع العسكري في جنوب السودان.
تصريحات تزيد من تعقيد المشهد
لم يتوقف التصعيد عند تصريحات رئيس الأركان فقط. وزير الدفاع شول طون، وفي تصريحه الأخير، أضاف مزيدًا من التوتر إلى المشهد، حيث قال: “أنت تعرف من قتل ماجور، وهو هنا بيننا.” هذا التصريح، الذي يحمل تلميحًا ضمنيًا، يمكن أن يكون إشارة إلى تورط جهات أخرى في الحادثة، بل قد يحمل اتهامًا مباشرًا للنائب الأول للرئيس رياك مشار، مما يزيد من تعقيد الوضع السياسي والأمني في البلاد.
إضافة إلى ذلك، كشف الجنرال كوال مانيانق، أحد القادة العسكريين، أن رياك مشار كان قد طلب من مجور داك تسليم نفسه للمفوض في الناصر، لكنه رفض. هذا التصريح يثير تساؤلات حول الوضع الداخلي في صفوف قوات المعارضة والجيش الأبيض، حيث يبدو أن هناك تناقضات في مواقفهم.
هل هناك مخطط لإشعال الحرب؟
إذا نظرنا إلى الأحداث من زاوية أوسع، قد يكون اغتيال اللواء مجور داك ليس حادثًا عرضيًا، بل جزءًا من مخطط أوسع يهدف إلى تأجيج الصراع في المنطقة. قد تكون هذه الحادثة مدبرة لإعادة إشعال فتيل الحرب، في وقت تتزايد فيه الأزمات الداخلية في البلاد، سواء كانت اقتصادية أو سياسية. فالقضية قد تكون أكثر من مجرد نزاع عسكري محلي في الناصر، بل جزء من حسابات أكبر تهدف إلى تدمير الاستقرار النسبي الذي تحقق بعد اتفاقية السلام.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن رياك مشار لا يمثل فقط الجيش الأبيض أو النوير في هذه القضية. فهو، في الواقع، عضو رئيسي في حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية (TGONU). ولذلك، فإن تحميله مسؤولية الأحداث في الناصر دون أدلة واضحة لا يبدو منطقيًا. بل، قد تكون هذه الاتهامات جزءًا من أجندة سياسية تهدف إلى إلقاء اللوم على مشار وتشويش الرأي العام الدولي والمحلي بهدف تبرير التصعيد العسكري.