*أمال صالح
إذا ما حاولنا ترك العلاقة التاريخية بين إريتريا وإثيوبيا جانبًا، إلى حين، وحاولنا النظر إلى حاجة إثيوبيا إلى منفذ بحري بعيدًا عن الإسقاطات التاريخية لسرديات النخب الإثيوبية حول أحقيتها في المنافذ البحرية، وحاولنا النظر إلى حقيقة هذه الحاجة وما وراءها، ماذا يمكن أن نقرأ؟
إثيوبيا بلد واسع وضخم، بمساحة تبلغ حوالي 1,104,300 كيلومتر مربع، وتعداد سكاني يقدر بحوالي 120 مليون نسمة وفقًا لأحدث التقديرات في 2023. اقتصاديًا، إثيوبيا بلد زراعي ضخم. تمتلك إمكانيات هائلة في إنتاج الكثير من المحاصيل الزراعية التي تستطيع تغطية الاحتياجات الأساسية للسكان وتصديرها. وأهم محاصيلها بالطبع هي البن، فهي من أهم وأكبر منتجي ومصدري البن في العالم، بالإضافة إلى محاصيل أخرى مثل القمح والتوابل والقطن. ولإثيوبيا أيضًا مصدر مهم في تعزيز النمو الاقتصادي فيها، وهو نهر النيل، حيث يوجد فيها المصدر الأساسي للنيل الأزرق الذي يلتقي بالنيل الأبيض ليشكلا نهر النيل.
ثم إن وجود النيل بحد ذاته يمثل مصدرًا مهمًا لتوليد الطاقة الكهرومائية وتزويد البلاد بالكهرباء التي تحتاجها، وخاصة من النيل الأزرق. وقد استثمر الإثيوبيون في حكومتي زيناوي/ ديسالين في ذلك من خلال مشروع بناء سد النهضة. وبرغم أن نهر النيل يمثل مصدرًا قويًا لدفع النمو الاقتصادي في إثيوبيا، فإن تأثيره يعتمد على تطوير البنية التحتية بشكل فعال والحاجة إلى التعاون الإقليمي في استخدام المياه، لتجنب حالة عدم الاستقرار وتجاوز التحديات السياسية.
وهناك أيضًا مجالات التعدين والسياحة، حيث تمتلك إثيوبيا مخزونًا كبيرًا من الذهب، وهي بلد يملك مقومات طبيعية وتاريخية تؤهلها لتكون أحد أهم مراكز السياحة في شرق أفريقيا إذا ما تم الاستثمار فيها بشكل جاد وواسع.
فما الذي دفع بحكومة رئيس الوزراء آبي أحمد بعد صعوده إلى السلطة، وبدلاً من وضع سياسات جديدة وفعالة للاستثمار في جميع مقومات الاقتصاد المتاحة وتطويرها، لخلق فرص للاستقرار الاقتصادي والسياسي لإثيوبيا التي كانت في طور نهوض ملحوظ حينها؟ لماذا ركز على أولوية إيجاد مصادر أخرى عبر منافذ على البحر الأحمر؟ ولماذا سعى إلى إعادة العلاقة مع إريتريا، وفي ذات الوقت، عمل على إسكات الداخل الإثيوبي مرة بالوعود وأخرى بالتهديد؟
انشغل آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي الصاعد حينها، أكثر بملفات الصراعات الداخلية وسعى منذ البداية إلى تقويض كل مراكز القوى المتحفظة عليه والمعارضة له، رغم أنها لم تكن تشكل خطرًا حقيقيًا يهدد استمراره على الأقل في سنوات حكمه الأولى. فهو، بعد أن مد يد الصلح إلى أحد أبرز معارضي النظام السابق، جوهر محمد، زعيم المعارضة الأورومية، والأكثر تأثيرًا وشعبية بين أبناء قومية الأورمو التي قادت احتجاجات عام 2018، والتي كان لها دور رئيسي في استقالة رئيس الوزراء هيلي ماريام ديسالين وإنهاء حكم أبناء تقراي بعد ثلاث عقود متتالية، وخروجهم من أديس أبابا وعودتهم إلى إقليمهم في الشمال.
ورغم دعم جوهر محمد لآبي أحمد الذي ينحدر هو نفسه من الأورومو وكان عضوًا في حزب المؤتمر الديمقراطي الأورومي في صعوده إلى رئاسة الحكومة، والأخذ بوعود آبي أحمد الطموحة التي روج لرؤية سياسية تسعى إلى توسيع الحريات وتحسين العلاقات مع دول الجوار وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واسعة، إلا أن ذلك لم يمنع تعمق الخلافات بينهما لاحقًا في 2020، عندما كثرت اعتقالات المنتقدين لآبي أحمد وشملت بعض الشخصيات المعارضة الأورومية، بما في ذلك محمد جوهر نفسه. كان جوهر قد بدأ بالانتقادات لمسار آبي أحمد واتهمه صراحة بتأجيل الانتخابات بشكل غير مبرر تحت ذريعة فيروس كورونا، واعتبر ذلك مراوغة من آبي أحمد للحفاظ على السلطة دون منافسة. من هنا تشكلت واحدة من أكبر بؤر الصراع والمقاومة التي تحولت إلى مقاومة كامنة، قابلة للانفجار في أي وقت.
في جبهة أخرى، كان آبي يواجه تحديات من خصومه في تقراي، الذين استشعروا مخاوف وجودية بعد صعود آبي أحمد وإعلان رغبته في الصلح مع أفورقي، خصمهم الرئيس. فبدأوا بالترتيب لتمكين أنفسهم وتعزيز فرص الاستقلال عن المركز إذا ما اضطروا إلى ذلك. لاحقًا، ارتكب آبي أحمد خطأ قاتلًا ستنعكس تأثيراته على حكمه وبرامجه والتزاماته الأخرى، وسيكون خصمًا عليه وعلى إثيوبيا، عندما لجأ إلى القوة العسكرية في محاولة ردعهم وإخضاعهم بالقوة.
كانت المواجهة الدامية التي استمرت لعامين، استعان فيها بدعم أفورقي، العدو اللدود للتقراي. فقد أبناء تقراي في تلك الحرب نحو نصف مليون من سكانهم وشُرد الكثيرون. وبرغم من عقد اتفاق بريتوريا للسلام مع الإقليم لاحقًا، إلا أن ذلك لم يعالج الأزمة وحول الإقليم إلى بركان كامن وقابل للانفجار في وجه حكومته أيضًا.
هناك أيضًا تحديات مشابهة مع عدد من الحركات السياسية التي تمثل العرقيات الإثيوبية المختلفة، مثل الأمهرة والعفر والصوماليين، وغيرها، التي تشعر أن الحكومة المركزية بقيادة آبي أحمد لا تمثل مصالحها بشكل كافٍ أو تعطيهم حقوقًا متساوية في إطار النظام الفيدرالي الإثيوبي. أيضًا هناك عدد من الأحزاب الإسلامية في إثيوبيا التي ترى أن آبي أحمد لا يعبر عن مصالحهم أو أنهم يواجهون التهميش في ظل حكمه.
إذًا، تنوعت المجموعات المعارضة لآبي أحمد في إثيوبيا بين أحزاب سياسية عرقية ودينية وحركات قومية، وكل منها يعبر عن مطالب وتحديات خاصة تتعلق بالتوزيع العادل للسلطة والموارد، وحقوق الأقليات، والإصلاحات السياسية التي لم يقم بها آبي أحمد.
كيف تعامل آبي أحمد مع هذا الواقع كثيف التحديات؟
الحقيقة أن آبي أحمد الحائز على جائزة نوبل للسلام لم يكن يرى السلام مدخله لحلحلة معضلات الداخل الإثيوبي، وإيجاد صيغ سلام توفق بين الأطراف المعارضة عبر تنفيذ وعوده السابقة والعمل على تأسيس حكومة توافقية تتيح للإثيوبيين العمل معًا من أجل إثيوبيا جديدة تتعايش في سلام. لأن ذلك يتطلب جهدًا كبيرًا وزمنًا طويلًا وإرادة وطنية وعينًا واعية. فما فعله آبي أحمد بفكرة السلام هو أنه اعتبرها مخرجًا له من تحديات الداخل والهروب إلى الأمام، عبر خلق ما اعتقد أنه مخرج له في السلام ذي المصالح الذاتية المؤقتة مع الرئيس أفورقي. تلقى أفورقي الدعوة ورحب بها، وذهب الاثنان في حركة محمومة للفوز بتحالفات خارجية مع لاعبين دوليين، هما الإمارات والسعودية، راعيا اتفاق السلام الرئيسيين، بما لهما فيه من مصالح إقليمية بعيدة المدى.
تلقى الاثنان الترحيب، تقلدا الأوسمة، وتلقيا الوعود والدعم المادي. ولم تتردد الإمارات في الدخول مباشرة في شراكة قوية مع آبي أحمد ودعمه بالفعل بالتوقيع على عدة اتفاقيات لدعم الاقتصاد الإثيوبي عبر مشاريع دعم البنية التحتية للبلاد ودعم المصارف والبنوك والاستثمارات طويلة الأمد في العقارات والموانئ. نعم كان هناك حديث عن الموانئ، ولكن أي موانئ تحديدًا، وإثيوبيا لا بحر لها إلا الذي في مخيلتها الاستعمارية؟ وما هو الموقف الإرتري حينها من كل ذلك؟
ولكن لنعود إلى تساؤلاتنا أعلاه عن إمكانية تفعيل مقومات الاقتصاد الإثيوبي الذاتية، والتي لم ينفذ آبي أحمد وعوده بشأنها. نحتاج إلى التدقيق في سبب تركيز آبي أحمد على الدعم الخارجي، وسعيه المحموم لنيله من الداعمين. وهل كان كل ذلك بإرادته؟
يعتقد آبي أحمد أنه سيختنق وأن إثيوبيا ستنهار إذا لم يتمكن من الوصول إلى موانئ إريتريا في البحر الأحمر!
في حين أن اثيوبيا تمتلك مقومات لا يستهان بها قادرة على دفع عجلتها الاقتصادية بشكل متوازن. فلماذا سارع آبي أحمد إلى تلقي القروض بسرعة، بدلًا من التركيز على تطبيق سياسات بديلة وإصلاحات داخلية حقيقية، وفك مكامن الأزمات بتسويات سياسية مع خصومه؟ ومن ثم اللجوء إلى دعومات خارجية متوازنة لا تلقي بثقلها على حكومته ولا على إثيوبيا وتكبل قرارها السياسي، وهو الأهم؟
هل الخروج من هذا المأزق هو الهروب إلى الأمام وتنفيذ أجندات خارجية على حساب شعبي البلدين؟
هل نزاع مسلح آخر، هذه المرة مع إريتريا، مغامرة أكثر إغراءً لآبي أحمد إلى الحد الذي يدفعه إلى خوضها وبإرادته!! دون أي دعم أو ضمانات من نوع ما؟
أسئلة مفتوحة على احتمالات كثيرة، وإجاباتها معروفة مما نراه من تأثيرات وتداعيات حروب الوكلاء والتحالفات والسباق المحموم لللاعبين الإقليميين في القرن الأفريقي. وما جرى ويجري في السودان هو نموذج لهذه الصراعات القاتلة ومحاولات الهيمنة، عبر وكلاء لا تعنيهم سيادة دولهم ولا مصالح شعوبهم.
وفي عالم تتغير فيه معايير التحالفات وسياسات التعاون المشترك، وتتحول فيه الدول إلى مجرد مشاريع استثمارية وشعوبها إلى أدوات لتنفيذها وأسواق للاستهلاك فيها، لا يمكن أن يتحقق السلام والعدالة والتقسيم المتوازن للموارد في منطقتنا، إلا بإزاحة مثل هذه الأنظمة تمامًا، وخلق بدائل لنظم جديدة وطنية، تحترم السيادة وتحتكم إلى القوانين، وقادرة على وضع شعوبنا في هذا السباق كفاعلين وشركاء استراتيجيين، وليس كمتلقين ضعفاء وضحايا بؤساء.
*كاتبة من إريتريا