شهدت تركيا أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ما أدى إلى انهيار حاد في قيمة الليرة التركية وارتفاع تكاليف الاقتراض لمستويات قياسية، وسط احتجاجات واسعة في مختلف المدن التركية.
ويمثل الاعتقال المفاجئ لأقوى منافس محتمل للرئيس رجب طيب أردوغان انعطافة خطيرة في المشهد السياسي التركي، تلقي بظلالها على مستقبل الديمقراطية واستقرار الاقتصاد في البلاد، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
خلفية اعتقال إمام أوغلو وتفاصيل الحملة الأمنية
ألقت السلطات التركية القبض على أكرم إمام أوغلو (54 عاماً) صباح يوم الأربعاء الموافق 19 مارس 2025، في مداهمة على منزله في إسطنبول، ضمن حملة أمنية واسعة استهدفت نحو 100 شخصية سياسية معارضة ومقربين منه.
وجاء الاعتقال بعد ساعات قليلة من إعلان جامعة إسطنبول إلغاء شهادته الجامعية بزعم حصوله عليها بطريقة غير شرعية، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية.
وأفادت المصادر أن التوقيف جاء في إطار تحقيقات تتعلق بتهم “فساد وإرهاب”، وفي رسالة مكتوبة بخط اليد تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، قال إمام أوغلو إن الأتراك سيردون على “الأكاذيب والمؤامرات والمكائد” التي تُحاك ضده، مؤكداً قبل مغادرته منزله متوجهاً إلى مركز الشرطة أنه لن يستسلم أمام الضغوط.
من جانبه أعلن حزب الشعب الجمهوري المعارض حالة الطوارئ عقب اعتقال إمام أوغلو، ووصف رئيس الحزب أوزغور أوزيل ما حدث بأنه “محاولة انقلاب ضد رئيسنا القادم”.
وأكد أعضاء في اللجنة التنفيذية للحزب أنهم يواجهون سلطة “قامت بتعليق القانون والديمقراطية”، مشددين على أن القضية هي “قضية تركيا بأسرها وليس فقط قضية حزب الشعب الجمهوري”.
انهيار الليرة التركية وتداعيات اقتصادية حادة
وعلى المتسوى الاقتصادي تسبب اعتقال إمام أوغلو في تداعيات حادّة على الاقتصاد التركي، وأدّى إلى انهيار غير مسبوق لليرة التركية التي فقدت 12 في المائة من قيمتها أمام الدولار.
وبحسب بيانات نشرتها وكالة بلومبرغ، قفز سعر الدولار مقابل الليرة التركية بنسبة 11.9% إلى 41.05 ليرة، ثم واصل ارتفاعه ليصل إلى 42 ليرة في أحدث التعاملات، مقارنة بمستوى إغلاق 36.67 ليرة يوم الثلاثاء.
وصاحب انهيار الليرة تعليق مؤقت للتداول في بورصة إسطنبول بعد هبوط حاد في المؤشرات تجاوز 5%3.
وفتح مؤشر بورصة إسطنبول 100 تعاملاته على انخفاض بنسبة 6.87% عند 10060 نقطة، فيما خسر مؤشر البنوك 7.02%، وتراجعت مؤشرات كافة القطاعات، وكان قطاع الاتصالات الأكثر تراجعاً بنسبة 7.56%3.
ولمواجهة هذا الانهيار، تدخلت البنوك التركية ببيع نحو 9 مليارات دولار لدعم الليرة التركية، وفقاً لما أشارت إليه المصادر49. ورغم ذلك، لم تتمكن الليرة من استعادة قيمتها السابقة، لكنها استقرت عند مستوى 38 ليرة للدولار بعد تقليص جزء من خسائرها78.
ارتفاع قياسي في تكاليف الاقتراض
أدت الأزمة إلى ارتفاع تكلفة اقتراض الليرة التركية في السوق الخارجية إلى أعلى مستوى منذ عامين، ووصلت معدلات الفائدة المعروفة باسم العوائد الضمنية الآجلة لليلة واحدة إلى 175% في الساعة 8:45 صباحاً في إسطنبول يوم الخميس، مقارنة بأقل من 38% قبل اندلاع الاضطرابات السياسية الأخيرة.
ويمثل هذا الارتفاع الحاد في تكاليف الاقتراض مؤشراً خطيراً على تدهور ثقة المستثمرين في الاقتصاد التركي، ويضع ضغوطاً إضافية على البنك المركزي التركي الذي كان قد بدأ منذ مطلع العام الجاري بالتراجع قليلاً عن سياسة التشدد النقدي واعتماد نهج التيسير من خلال تخفيض سعر الفائدة لثلاث مرات متتالية.
كانت تركيا قد خفضت سعر الفائدة بنحو 250 نقطة أساس في ديسمبر 2024، لتبلغ 47.5%، واستمرت في يناير 2025 بتخفيض سعر الفائدة بمقدار 250 نقطة أساس ليصل إلى 45%، ثم خفضته الخميس الماضي بالنسبة نفسها، ليبلغ سعر الفائدة حالياً 42.5%9.
ولكن مع الارتفاع الحاد في تكاليف الاقتراض في السوق الخارجية، قد يضطر البنك المركزي التركي إلى إعادة النظر في سياسة التيسير النقدي والعودة إلى رفع أسعار الفائدة.
تأثير الأزمة على الاستثمارات الأجنبية
يمثل التحقيق مع منافس أردوغان الأقوى جرس إنذار صاخب بشأن المخاطر المرتبطة بالاستثمار في تركيا، حيث سجلت الأصول التركية أكبر انخفاض على مستوى العالم في يوم الاعتقال.
وتراجعت العقود الآجلة لمؤشر بورصة إسطنبول 30 بنسبة 0.4% عند الافتتاح، مما يشير إلى أن الضغط البيعي على الأسهم التركية قد بدأ في التراجع، وكان المؤشر الرئيسي للأسهم التركية قد فقد 8.7% في اليوم السابق.
وفي تقييم للوضع، كتب الخبير الاقتصادي في جولدمان ساكس، كليمنس جراف، أن “الضغط البيعي من المستثمرين الأجانب من المرجح أن يكون محدوداً”.
وأوضح أن “المراكز الاستثمارية الأجنبية في تركيا قد زادت، لكنها لا تزال تتركز بشكل أساسي في الاستثمارات قصيرة الأجل”.
وتميل العملة التركية إلى الاستجابة بشكل سلبي للقضايا المحلية، سواء كانت سياسية أم اقتصادية. وأظهرت أحداث سابقة، مثل الانقلاب الفاشل في عام 2016 وبداية الأزمة الاقتصادية في عام 2018، أن الليرة تميل إلى التراجع من القمة إلى القاع بنحو 30% في أوقات الغموض.
توقيت مثير للجدل قبيل الانتخابات الرئاسية
ويكتسب اعتقال إمام أوغلو أهمية خاصة نظراً لتوقيته، حيث جاء قبل أيام قليلة من ترشيحه المرتقب لخوض الانتخابات الرئاسية عن حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في تركيا.
ويعتبر إمام أوغلو، الذي تغلب على المرشح الذي اختاره أردوغان في انتخابات بلدية إسطنبول العام الماضي، أحد أكثر السياسيين شعبية في تركيا، ويُنظر إليه على أنه أبرز المنافسين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يحكم البلاد منذ 22 عاماً.
وفي هذا السياق، يرى محللون سياسيون أن اعتقال إمام أوغلو يعكس محاولة من الحكومة التركية لإقصاء المنافسين المحتملين قبل الانتخابات الرئاسية القادمة وتعزيز سلطة أردوغان.
ويشير البعض إلى أن تركيا تحت حكم أردوغان تتحول “من نظام استبدادي مفتوح إلى نظام استبدادي صارم على غرار النظام البيلاروسي”.
احتجاجات واسعة تتحدى حظر التظاهر
وشهدت عدة مدن تركية مظاهرات حاشدة احتجاجاً على توقيف إمام أوغلو، رغم فرض السلطات حظراً على التظاهرات والتجمعات في إسطنبول والولاية لمدة 4 أيام.
وتجمع آلاف المتظاهرين أمام بلدية مدينة إسطنبول وسط حضور مكثف للشرطة، منددين باحتجاز إمام أوغلو وسط دعوات لاستقالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
في منطقة ساراتشانه بإسطنبول، ألقى زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل كلمة أمام الحشود، متهماً أردوغان باستهداف إمام أوغلو خوفاً من الخسارة في الانتخابات القادمة.
كما خرج المتظاهرون إلى الشوارع في العاصمة أنقرة، حيث وقعت اشتباكات بين الطلاب والشرطة في جامعة الشرق الأوسط التقنية، وسط أنباء عن اعتقال عدد من المتظاهرين
وعلى الرغم من حظر السلطات الاحتجاجات مؤقتاً وإغلاق الشرطة بعض شوارع المدينة، تجمع المئات عند مركز الشرطة الذي اقتيد إليه إمام أوغلو وهتفوا “سيأتي اليوم الذي يُحاسب فيه حزب العدالة والتنمية”.
وتواصلت المظاهرات في مختلف المدن التركية حتى ساعات متأخرة من مساء الأربعاء، مما يعكس حجم الغضب الشعبي الذي أثاره قرار اعتقال رئيس بلدية إسطنبول.
انعكاسات الأزمة على مستقبل تركيا السياسي والاقتصادي
تثير أزمة اعتقال إمام أوغلو مخاوف عميقة بشأن مستقبل الديمقراطية وسيادة القانون في تركيا، إذ يرى البعض أن هذه الخطوة تمثل تصعيداً في حملة أردوغان ضد معارضيه وتقويضاً للعملية الديمقراطية. ويرجح محللون أن الهدف الأساسي من اعتقال إمام أوغلو هو منعه من الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، لكن هذه الخطوة قد تأتي بنتائج عكسية، إذ أنها أدت إلى زيادة التعاطف الشعبي معه وتحوله إلى رمز للمعارضة ضد الحكومة.
من الناحية الاقتصادية، يمكن أن تؤدي هذه الأزمة إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها تركيا، خاصة مع ارتفاع نسب التضخم التي بلغت 39.05% في فبراير الماضي.
كما أن تراجع سعر الليرة التركية سينعكس على ارتفاع الأسعار وزيادة تكاليف معيشة الأتراك، ويفاقم الضغوط المعيشية التي يواجهونها.
على المدى الطويل، قد تؤثر هذه الأزمة سلباً على ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد التركي، وتؤدي إلى هروب المزيد من رؤوس الأموال، مما يضع ضغوطاً إضافية على الاحتياطيات الأجنبية للبلاد ويحد من قدرتها على جذب استثمارات جديدة.