بقلم/ فرانسيس مايكل قوانق
في ظل الأزمات المستمرة التي تعصف بجنوب السودان، برز خطاب نائب رئيس البلاد للشؤون الاقتصادية، بنجامين بول ميل، كدق ناقوس خطر يسلط الضوء على التحديات العميقة التي يواجهها اتفاقية تسوية النزاع المنشطة السلام لعام 2018.
تناول الخطاب موضوعات حيوية تتعلق بالأمن، وتنفيذ بنود الاتفاق، فضلاً عن ضرورة تحقيق الوحدة العسكرية بين الأطراف المتنازعة. وفي الوقت الذي يسعى فيه العديد من الفاعلين المحليين والدوليين إلى تعزيز الاستقرار في البلاد، يعكس خطاب بول ميل قلقا بالغا إزاء استمرار العنف الذي يهدد بإفشال عملية السلام. من خلال هذه التصريحات، ظهرت عدة محاور تحليلية بارزة تتطلب فحصا دقيقا لفهم تداعياتها السياسية والعسكرية على مستقبل جنوب السودان.
تصعيد اللهجة، حيث يُعتبر تهديده بـ “فرض السلام بالقوة” تصعيدا خطيرا للغة الخطاب السياسي في جنوب السودان، التي تشهد توترا محفوفاً بمخاطر اندلاع القتال، لكن في الوقت ذاته يُشير هذا إلى نفاد صبر الحكومة “معسكر سلفاكير” من تعثر تنفيذ اتفاق السلام، وإلى استعدادها لاتخاذ إجراءات أحادية، ومن خلال دعوته إلى تسليم الأسلحة والامتثال للأوامر، يعكس الخطاب رسالة حازمة بأن أي تهاون في تنفيذ اتفاقية السلام سيؤدي إلى فرض الأمن بالقوة، هذه اللهجة تعكس رغبة الحكومة في عدم التسامح مع أي تهديد قد يؤدي إلى تصعيد النزاع.
الضغط على رياك مشار: ركز بول ميل إلى حد بعيد على مطالبة رياك مشار بالامتثال للترتيبات الأمنية، والتخلي عن علاقته بـ “الجيش الأبيض”، والتخلي عن منصبه كقائد عام للحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة.
ويُظهر هذا محاولة واضحة لتقويض نفوذ مشار، وتحميله مسؤولية تعثر عملية السلام، وقد يكون الهدف هو تقليص التوترات وتعزيز السلطة المركزية للرئيس سلفاكير وحلفائه.
التأكيد على قوة الجيش: أكد بول ميل في خطابه على أن “الجيش أقوى من أي وقت مضى”، ويُطالب الجماعات المسلحة بالاستسلام، يُمكن تفسير هذا على أنه محاولة لترهيب المعارضة أكثر من “الجيش الأبيض”، وإظهار قوة الحكومة خاصة بعد الاعتقالات الأخير في العاصمة جوبا لقيادات العسكرية والسياسية من حركة مشار، دون رد فعل خطير كما كان تتوقعها الحكومة، لان بالنظر إلى الوضع في جنوب السودان ليس هناك جيش معترف بها من قبل أطراف السلام أو جيش مهني “خلاف جيش الانتماءات القبلية والولاءات الحزبية”، وحتى يكون هناك جيش قادر على التعامل مع الانفلاتات الأمنية وفرض السلام بالقوة، فالجيش الذي يتحدث عنه بول ميل هو قوات الموالية لمعسكره، بتالي فرض السلام بالقوة تعني الاقتتال مجددا، وهي خطوة تعني العودة إلى المربع الأول وانهيار الاتفاقية.
الاتهامات المتبادلة: وجه بول ميل اتهامات صريحة للحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة بتقويض السلام، وتضليل الحكومة. وهذا يُشير إلى عمق الخلافات بين الطرفين حاليا، وإلى صعوبة تحقيق المصالحة، لكن النداء الذي أطلقه بول ميل للسلام من خلال التهديدات بالعمل العسكري قد يعكس الحاجة الملحة لإنهاء النزاع العسكري، وفي نفس الوقت قد يؤدي إلى زيادة الانقسام السياسي بين الحكومة والمعارضة، وزيادة الاحتقان بين الأطراف وتعطيل جهود توحيد القوات المسلحة، الذي يمثل تحديا كبيرا أمام عملية المصالحة الوطنية.
التركيز على الترتيبات الأمنية: الحديث عن تسريع الترتيبات الأمنية، وخاصة توحيد القوات المسلحة، هي نقطة متناقضة تماما مع فرض “السلام بالقوة”، والقول إن الجيش أقوى من أي وقت مضى يكشف مدى التسليح العسكري للحكومة “مجموعة سلفاكير” والدعم الأوغندي لها، أكثر من أن يكون هناك قوات ذات مهنية قادرة على تنفيذ أوامر فرض السلام بالقوة، دون أن تنحرف هذه القوة إلى عنف قبلي مسلح، لكنه في نفس الوقت يُعكس إدراك الحكومة لأهمية هذا الملف في تحقيق الاستقرار، رغم المناورات التي تشير بالعودة إلى الحرب مجددا.
تأثير الخطاب: خطاب بول ميل، بصفة عامة أثار ردود فعل متباينة، حيث يعتبره البعض خطوة ضرورية نحو تحقيق السلام، بينما حذر آخرون من أنه قد يؤدي إلى تصعيد التوترات، ويُشير هذا إلى الانقسام الحاد في الرأي العام حول كيفية المضي قدما في عملية السلام، خاصة أن لغة الخطاب كشف المستور عنه في البلاد وشخصية بول ميل، ودره في إدارة البلاد، فإنه تحدث بمكان الرئيس، وليس نائبا للرئيس، وقد أرجع العديد أن من كان في المنصب من قبل لم يتحدث كما تحدث بول ميل، فهل هذا الثقة بالنفس والإدراك بمستقبل البلاد. أم في خلف الكواليس تنبؤات أخرى؟.
في آخر الأمر يُشير خطاب بول ميل، إلى مرحلتين حرجتين في عملية السلام في جنوب السودان. أولا تحقيق سلام دائم في البلاد بالحوار، وثانيا التهديد باستخدام القوة مؤشرا خطيرا، يُنذر بتصاعد العنف إذا لم يُتوصل إلى حل سياسي للأزمة.
وبناءً على هذا، يجب على الحكومة وحلفائها أن يعملوا على بناء الثقة مع الأطراف الأخرى، لا سيما المعارضة بقيادة رياك مشار، وشباب نوير المسلحين “الجيش الأبيض”، وتقديم ضمانات للسلام طويل الأمد من خلال آليات سياسية واضحة وآمنة. الحوار المستمر والضغوط الدبلوماسية من المجتمع الدولي قد تكون عوامل حاسمة في إحداث التوازن بين الحزم العسكري والإصلاحات السياسية الضرورية، وما لم يتم ذلك فإننا على حافة حرب مدمر مجددا يحرق اليابس.