شبح الحرب يخيم على جنوب السودان: أزمة سياسية وأمنية متفاقمة
يشهد جنوب السودان توترات أمنية خطيرة خلال الأيام الأخيرة، حيث شهدت العاصمة جوبا حملة اعتقالات واسعة استهدفت قيادات عسكرية وسياسية مقربة من نائب الرئيس رياك مشار. تصاعدت هذه التوترات بعد انتشار القوات الحكومية حول مقر إقامة مشار ومواجهات دامية في ولاية أعالي النيل. هذه التطورات تهدد بتقويض اتفاق السلام الموقع عام 2018 والذي أنهى حرباً أهلية استمرت خمس سنوات وتسببت في مقتل مئات الآلاف من المدنيين، مما يثير مخاوف من انزلاق البلاد مجدداً إلى دوامة عنف شاملة.
حملة اعتقالات واسعة تستهدف حلفاء مشار
شهدت العاصمة جوبا خلال الأيام الأخيرة حملة اعتقالات واسعة طالت عدداً من القيادات العسكرية والسياسية المقربة من نائب الرئيس رياك مشار. فقد تم احتجاز نائب رئيس الأركان غابرييل دوب لام، المتحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة التابعة لنائب الرئيس ريك مشار، واحتجازه في مقر قيادة الجيش في العاصمة جوبا. كما تم اعتقال وزير البترول بوت كانج تشول والعديد من أعضاء الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة الآخرين في منازلهم.
وقال المتحدث باسم مشار إن وزير النفط بوت كانج شول ونائب قائد الجيش اعتُقلا بينما يقبع مسؤولون عسكريون كبار متحالفون مع مشار رهن الإقامة الجبرية. وأضاف المتحدث “حتى الآن لم يقدم لنا أي سبب لاعتقال هؤلاء المسؤولين”.
وفي تطور لاحق، تم اعتقال الوزير المعني بجهود إحلال السلام في البلاد ستيفن بار كول، وهو من السياسيين المشاركين في مفاوضات “اتفاق السلام” عام 2018، قبل أن يتم الإفراج عنه في الساعة الخامسة من صباح الجمعة بعدما اعتقله جهاز الأمن الوطني مع ثلاثة من موظفي مكتبه.
محاصرة مقر إقامة نائب الرئيس
تزامنت حملة الاعتقالات مع انتشار كثيف للقوات الأمنية الحكومية حول مقر إقامة نائب الرئيس رياك مشار في العاصمة جوبا. وأشارت تقارير إلى استمرار تواجد قوات الأمن حول مقر إقامة مشار، فيما أفاد المتحدث باسم مشار أن نائب الرئيس تمكن من التوجه إلى مكتبه صباح الأربعاء رغم محاصرة منزله.
وعبرت الحركة الشعبية لتحرير السودان في المعارضة عن قلقها إزاء الانتشار الكثيف لقوات دفاع شعب جنوب السودان حول مقر إقامة النائب الأول للرئيس الدكتور رياك مشار. وأكدت الحركة في بيان رسمي أن هذه الإجراءات “تقوض الثقة بين الأطراف ويعرض الجهود الرامية إلى تهدئة العنف الحالي الذي اندلع في مقاطعة ناصر بولاية أعالي النيل للخطر”.
الصراع في ولاية أعالي النيل ودور “الجيش الأبيض”
شكلت الأحداث في ولاية أعالي النيل شمال البلاد أحد أهم أسباب التصعيد الأمني الأخير. فقد أعلنت ميليشيا “الجيش الأبيض”، وهي ميليشيا النوير، سيطرتها على الناصر، وهي بلدة بالقرب من الحدود الإثيوبية، بعد اشتباكات مع القوات الحكومية. وأثار تقدم الميليشيا مخاوف بشأن المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، التي تشهد عنفًا مستمرًا منذ عام 2013.
وقد اندلعت الاشتباكات فجر الاثنين، تخللها إطلاق نار كثيف وقصف جوي، وأفاد تير شول قاتكوث، أحد قادة شباب الناصر، بأن المواجهات أسفرت عن سقوط قتلى ونزوح أعداد كبيرة من السكان خوفًا من تصاعد العنف.
وأعلن رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت في مؤتمر صحفي الجمعة، مقتل قائد الحماية العسكرية لمقاطعة ناصر، اللواء ماجور داك، على يد ميليشيا الجيش الأبيض التابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان أثناء عملية إجلاء نفذتها بعثة الأمم المتحدة في البلاد.
اتهامات متبادلة بين الطرفين
وجهت الحكومة اتهامات للقوات الموالية لمشار بالتورط في أحداث العنف بولاية أعالي النيل. فقد اتهم وزير الإعلام مايكل ماكوي القوات الموالية لمشار بالتعاون مع جماعة “الجيش الأبيض” المسلحة لمهاجمة حامية عسكرية بالقرب من بلدة الناصر.
وقال المتحدث باسم جهاز الأمن، العقيد ديفيد جون، في مؤتمر صحفي بجوبا، إن الأمن لديه أدلة قاطعة على تورط من تم القبض عليهم خلال الأيام الماضية في زعزعة الأمن والاستقرار بمقاطعة الناصر بولاية أعالي النيل. وأكد أن حملة الاعتقالات ستستهدف كل من يُشتبه في انتهاكه للمادتين 54-55 من قانون الأمن الوطني.
خلفية التوتر بين الرئيس كير ونائبه مشار
تعود جذور الأزمة الحالية إلى الخلافات المستمرة بين الرئيس سيلفا كير ميارديت ونائبه رياك مشار على تقاسم السلطة، بموجب اتفاق سلام جرى تنشيطه قبل أعوام، لكنه واجه عثرات كبيرة، من بينها الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بخرق بنوده.
وكان رياك مشار، نائب الرئيس الحالي، قد خاض صراعا طويلا مع الرئيس سلفاكير قبل توقيع اتفاق السلام في عام 2018، لكن العلاقات بين الطرفين لا تزال متوترة، وسط اتهامات متبادلة بعدم تنفيذ الاتفاق بالكامل.
وحصدت الحرب الأهلية، التي اندلعت في ديسمبر 2013 بعد إقالة كير لمشار، أرواح ما يقدر بنحو 400 ألف شخص وأجبرت أكثر من 2.5 مليون على الفرار من منازلهم، وجعلت نصف السكان تقريبا البالغ عددهم 11 مليون نسمة يكافحون من أجل العثور على ما يكفي من الغذاء.
تحذيرات من انهيار اتفاق السلام
قال مشار في الشهر الماضي إن عزل العديد من حلفائه من مناصب في الحكومة يهدد اتفاق السلام بينه وبين كير الذي أنهى الحرب الأهلية في البلاد. وقال المتحدث باسم الحركة الشعبية في المعارضة إن احتجاز نائب رئيس هيئة الأركان “يعرض اتفاق السلام بالكامل للخطر”.
ودعا المدير التنفيذي لمركز السلام والمناصرة، تير مانيانج جاتويتش، إلى إطلاق السراح الفوري للمحتجزين للحيلولة دون تحول زيادة تصعيد العنف وإراقة المزيد من الدماء إلى ما وصفه بـ”حرب شاملة”. ويخشى أنصار المعارضة أن يكون اعتقال القيادات العسكرية خطوة تهدف إلى تقويض نفوذ مشار في الجيش وإضعاف المعارضة قبل الانتخابات المرتقبة.
جهود إقليمية ودولية لاحتواء الأزمة
في ظل تصاعد التوترات، تكثفت الجهود الإقليمية والدولية لاحتواء الأزمة ومنع انزلاق البلاد مجدداً نحو حرب أهلية. فقد وصل رئيس المخابرات الإثيوبية رضوان حسين ووزير الخارجية الإثيوبي جدون تميتيوس إلى العاصمة جوبا، الجمعة، في زيارة ترمي فيما يبدو لنزع فتيل الأزمة الحالية.
كما زار وفد رفيع المستوى من الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) جوبا أيضاً في إطار التحركات الإقليمية لمنع اندلاع الحرب مجدداً. وتجري الهيئة الحكومية للتنمية الدولية لدول شرق إفريقيا “إيقاد” اتصالات مكثفة بين الفرقاء في جوبا، لا سيما الرئيس ونائبه، لعقد اجتماع وتجاوز الخلافات بشكل عاجل.
وحث المبعوثون الغربيون الأسبوع الماضي القائدين على خفض تصعيد التوترات، فيما ترى “إيقاد” في هذا التصعيد تقويضاً لجهود السلام، والتنصل من الاتفاقيات السابقة التي أدت إلى تقاسم السلطة بين الطرفين.
مستقبل اتفاق السلام والتداعيات المحتملة للأزمة
تثير التطورات الأخيرة مخاوف جدية بشأن مستقبل اتفاق السلام وإمكانية انزلاق البلاد مجدداً إلى دوامة العنف. فقد أكد المتحدث باسم جهاز الأمن الداخلي في جنوب السودان أن اتفاقية السلام المنشطة 2018 ليست فوق القانون، في إشارة إلى إصرار السلطات على ملاحقة من تتهمهم بزعزعة الأمن والاستقرار.
وتتزايد المخاوف من أن استمرار هذه التوترات قد يؤدي إلى تأجيل الانتخابات المرتقبة، ويقوض جهود المصالحة وتنفيذ اتفاق السلام. كما تنذر هذه التطورات بانهيار اتفاقية السلام المنشطة لعام 2018، مما يمهد الطريق لعودة الصراع المسلح.
وفي ظل استمرار التوترات الأمنية والسياسية، يبقى المشهد في جنوب السودان غائماً، مع مخاوف متزايدة من اندلاع موجة جديدة من العنف تهدد بتقويض المكاسب الهشة التي تحققت منذ توقيع اتفاق السلام قبل سبع سنوات.