تتراقص إسرائيل على حافة الهاوية، تعصف بها أزمة داخلية غير مسبوقة، حيث تتشابك خيوط الصراع بين مؤسساتها السياسية والأمنية في معركة شرسة على السلطة. أحدث فصول هذا الصراع تفجر في قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، قبل أن تتدخل المحكمة العليا لتجميد القرار، كاشفة بذلك عن شروخ عميقة في قلب المنظومة الحاكمة. وفي ظل هذه العاصفة، يزداد شبح “لعنة العقد الثامن” حضوراً، ذلك الهاجس التاريخي الذي يطارد الإسرائيليين، مذكّراً إياهم بزوال كياناتهم السابقة بعد بلوغها ثمانين عاماً. وبينما تتردد تحذيرات القادة من اندلاع حرب أهلية، تقف إسرائيل اليوم أمام مفترق طرق خطير، تتهاوى تحت وطأة تصدعاتها الداخلية، بعدما أنهكتها خمس سنوات من الصراع الداخلي قبل أن يجرفها إعصار “طوفان الأقصى” إلى مصير غامض.
أزمة رونين بار وصراع المؤسسات الإسرائيلية تُعد قضية إقالة رونين بار من رئاسة جهاز الشاباك أحد أبرز مظاهر الأزمة الداخلية التي تعصف بإسرائيل حالياً. رونين بار هو ضابط مخابرات إسرائيلي من مواليد 1965، تولى رئاسة الشاباك منذ 13 أكتوبر 2021 بعد تعيينه من قبل رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت. خدم بار سابقاً في وحدة سايريت ماتكال النخبوية بالجيش الإسرائيلي، وبعد إنهاء خدمته العسكرية عام 1988، افتتح مقهى في تل أبيب قبل أن ينضم إلى الشاباك كعميل ميداني عام 1993، ثم تدرج في المناصب حتى أصبح نائب رئيس الجهاز عام 2018.
في 21 مارس 2025، صادقت الحكومة الإسرائيلية على إنهاء مهام بار كرئيس للشاباك، على أن يغادر منصبه في 10 أبريل أو بعد تعيين رئيس جديد للجهاز. جاء قرار الإقالة عقب خلاف حاد بين بار ونتنياهو حول ملف المفاوضات مع حركة حماس بشأن الأسرى، حيث وجه بار انتقادات صريحة لنتنياهو من خلال رسالة للوزراء قال فيها: “قرار الإقالة المقترح يزعم أنه ينطوي على ادعاء بانعدام الثقة بيني وبين رئيس الوزراء في ضوء تعاملي مع قضية إطلاق سراح المختطفين… لا أساس للادعاء المتعلق بانعدام الثقة المزعوم، إلا إذا كانت النية الحقيقية هي التفاوض دون التوصل إلى اتفاق”.
وأضاف بار: “عملياً، أضرت إقالة رئيس الموساد وإبعادي عن قيادة المفاوضات بالفريق ولم يسهم إطلاقاً في إطلاق سراح الرهائن، وبالتالي فإن ادعاء رئيس الوزراء في هذا السياق لا أساس له من الصحة”.
بعد قرار الإقالة مباشرة، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية أمراً مؤقتاً بتجميد إقالة بار من منصبه، إلى حين النظر في الالتماسات المقدمة ضد قرار الحكومة، وحددت موعداً أقصاه الثامن من أبريل للنظر في هذه الالتماسات. قدمت أحزاب “هناك مستقبل” و”المعسكر الرسمي” و”إسرائيل بيتنا” و”الديمقراطيون” هذه الالتماسات، وعلق بيني جانتس قائلاً: “إقالة رئيس الشاباك لأسباب سياسية هي وصمة عار على جبين كل وزير في الحكومة صوّت لصالح القرار، وسيُذكر هذا القرار بالخزي والعار إلى الأبد”.
تفاقمت الأزمة عندما اتهم نتنياهو بار بفتح تحقيق حول الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير دون إذنه، وقال في بيان: “الوثيقة المنشورة التي تحتوي تعليمات واضحة من رئيس الشاباك لجمع أدلة ضد قادة سياسيين تشبه الأنظمة القمعية، وتقوض الديمقراطية وتهدف إلى إسقاط الحكومة اليمينية”. هذه المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي يقال فيها رئيس الشاباك، مما يعكس عمق الأزمة بين المؤسسات.
تصريحات بار وردود حماس علقت حركة حماس على أزمة إقالة بار بالقول إن “تصريحات رئيس الشاباك تكشف تلاعب المجرم نتنياهو المتعمد بملف المفاوضات، وسعيه لإفشال أي اتفاق، ثم تعطيله بعد التوصل إليه، لأهدافه السياسية الخاصة”. وأضافت أن “هذه الاعترافات من داخل قيادة الاحتلال تؤكد أن نتنياهو كان ولا زال هو العائق الحقيقي أمام أي صفقة تبادل”.
وأشارت الحركة إلى أن “محاولات نتنياهو إبعاد شخصيات أمنية مؤثرة عن المفاوضات، يعكس أزمته الداخلية وأزمة الثقة المتفاقمة بينه وبين منظومته الأمنية، وتكشف عدم جديته في التوصل إلى اتفاق حقيقي”.
لعنة العقد الثامن: هاجس يطارد الإسرائيليين تشكل “لعنة العقد الثامن” هاجساً تاريخياً يطارد الإسرائيليين، وتتمثل في معتقد تاريخي يهودي مفاده أن الكيانات السياسية اليهودية لا تعمر أكثر من 80 عاماً. وبحسب التاريخ اليهودي، فإن الكيانات السياسية السابقة لليهود انهارت مع دخولها العقد الثامن من تأسيسها.
تاريخياً، أقام اليهود كيانين سياسيين في فلسطين: “مملكة داود” التي تأسست عام 1000 قبل الميلاد واستمرت أقل من 80 سنة، ثم انقسمت مع بداية العقد الثامن إلى مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهودا في الجنوب، وكلتاهما سقطتا على يد الآشوريين ثم البابليين. والكيان الثاني كان “مملكة الحشمونائيم” التي تأسست عام 140 قبل الميلاد ودخلت في العقد الثامن من عمرها مرحلة الفوضى وسقطت.
ومما يعزز مخاوف الإسرائيليين أن شكل سقوط الكيانين السابقين ارتبط بالدرجة الأولى بالتفسخ والانقسام المجتمعي، وهو ما تشهده إسرائيل حالياً. فالدولة تمر بانقسام اجتماعي حاد، تعمق مع تطورات “الانقلاب القضائي” على يد حكومة نتنياهو قبل معركة “طوفان الأقصى”، التي زادت من حالة الانقسام والتراشق والخوف داخل المجتمع الإسرائيلي.
تحذيرات الساسة الإسرائيليين من اللعنة حذّر عدد من كبار المفكرين والسياسيين الإسرائيليين من خطر العقد الثامن على دولة الاحتلال. قال إيهود باراك في عام 2022: “العقد الثامن بشّر في الحالتين ببداية تفكك السيادة. في العقد الثامن من وجودها انقسمت مملكة سلالة داود وسليمان… وفي العقد الثامن لمملكة الحشمونائيم، نشأ استقطاب داخلي”.
وأضاف باراك أن “المشروع الصهيوني هو المحاولة الثالثة في التاريخ… ووصلنا إلى العقد الثامن ونحن كمن استحوذ عليهم الهوس، بتجاهل صارخ لتحذيرات التلمود، نعجل النهاية، وننغمس في كراهية مجانية”.
أما الكاتب الصحفي آري شافيت، فقد أشار إلى أن الإسرائيليين أصبحوا “العدو الأكبر لأنفسهم في العقد الثامن من استقلال الدولة العبرية، ويمكن مواجهة التحديات الأمنية، لكن تفكك الهوية لا يمكن التغلب عليه”.
وأكد نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، في عام 2022، أن “إسرائيل تقف أمام اختبار حقيقي، وتشهد حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، وتواجه مفترق طرق”.
الانقسام الداخلي: تصدعات ما بعد طوفان الأقصى كشفت معركة طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023) عن واقع زاخر بالتوترات الداخلية في إسرائيل، مما أدى إلى انقسامات اجتماعية وسياسية باتت تهدد الهوية الوطنية للكيان الإسرائيلي، ومستقبل العلاقة بين مختلف مكوناته.
وفقاً لدراسة نُشرت في مجلة “تيلم” الإسرائيلية بعنوان “حرب أهلية بالوكالة”، تناول الباحث الإسرائيلي “أوري توفيل” ما تشهده إسرائيل من صراع داخلي تطور ليصبح أكثر من مجرد نزاع سياسي تقليدي، وأخذ يتسم بالعنف غير المباشر. جادلت الدراسة بأن الصراع الداخلي بات يستخدم تداعيات الهجمات الخارجية، فتسلل إلى قلب الصراع السياسي، وتحول إلى معركة على الموارد والسلطة.
ولأول مرة، تواجه إسرائيل صراعاً سياسياً بين معسكراتها أثناء خوضها حرباً خارجية، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وزعزع استقرار السلطة. يوجد في إسرائيل معسكران رئيسيان: “معسكر الحكومة” و”معسكر المعارضة”، وقد زادت حدة الخلاف بينهما بعد “طوفان الأقصى”، حيث أصبحت المعارضة تتهم نتنياهو بإطالة أمد الحرب لمصالحه السياسية والشخصية.
مخاطر الحرب الأهلية: هل اقتربت ساعة الصفر؟ مع تصاعد حدة الانقسام في إسرائيل، تتزايد المخاوف من اندلاع حرب أهلية، وهو ما حذر منه عدد من السياسيين الإسرائيليين. قال إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في 24 مارس 2025، إن “أسس الدولة الإسرائيلية تهتز، ورئيس الحكومة الحالية، بنيامين نتنياهو، مستعد للتضحية بكل شيء من أجل بقائه”، مشيراً إلى أن “إسرائيل أقرب إلى حرب أهلية مما يتصور البعض”.
وأضاف أولمرت أنه “لا يتذكر قط مثل هذه الكراهية، أو هذه المعارضة، لدولة إسرائيل في العالم”.
وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، فإن قرارات نتنياهو، فيما يتعلق بمعارضيه، تشكل “تضارباً كبيراً في المصالح لرئيس وزراء يُحاكم بتهمة الفساد”، كما تُمثل أيضاً “انقلاباً على السلطة القضائية، خاصة فيما يتعلق بإقالة رئيس الشاباك”.
مظاهر التوتر الداخلي المتزايد يتفاقم الغضب العام في إسرائيل بسبب الانطباع بأن نتنياهو استفاد سياسياً من العودة إلى الحرب، وهو ما ساعد في تعزيز حكومته الائتلافية. ومما يزيد من مخاطر الحرب الأهلية تصاعد الدعوات من قبل اليمين المتطرف لسحب صلاحيات من المؤسسات الديمقراطية. فقد اقترح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش “سحب صلاحية حماية الديمقراطية في البلاد من جهاز الأمن الداخلي ‘الشاباك'”، وذلك خلال الجلسة التي قررت فيها الحكومة إقالة رئيس الشاباك رونين بار.
تأتي هذه التطورات في ظل تصاعد الصراع بين الصهيونية الدينية وتيار اليسار الإسرائيلي، وبين الفئات الدينية والعلمانية، الأمر الذي ينبئ بأزمات جديدة سيواجهها الاحتلال متمثلة في تصاعد عدم الثقة بالمؤسسات الحكومية، وزيادة التباينات في المواقف إزاء القضايا الأمنية والاجتماعية.
الخاتمة: مستقبل إسرائيل في ظل الأزمات المتلاحقة تعيش إسرائيل اليوم مرحلة حرجة من تاريخها، تتجلى فيها مخاوف من تحقق “لعنة العقد الثامن” والانزلاق نحو حرب أهلية. تظهر أزمة إقالة رئيس الشاباك رونين بار حجم الصراع بين المؤسسات في إسرائيل، وعمق الانقسام السياسي والاجتماعي، وتآكل النسيج الاجتماعي الإسرائيلي.
تواجه إسرائيل تحديات وجودية تتمثل في استمرار حرب غزة دون أفق واضح، وتصاعد المقاومة في جبهات متعددة، وتفاقم الأزمة الداخلية. تشير التطورات الأخيرة إلى تزايد احتمالات اندلاع صراع داخلي قد يهدد بقاء الكيان الإسرائيلي، خاصة مع بلوغه المرحلة التاريخية الحرجة المتمثلة في العقد الثامن من تأسيسه.
تكشف هذه الأزمة عن هشاشة البنية السياسية والاجتماعية في إسرائيل، وتضعها أمام اختبار حقيقي لقدرتها على البقاء والاستمرار في وجه التحديات الداخلية والخارجية. ومع ذلك، فإن المؤسسات الإسرائيلية لا تزال تحاول الحفاظ على قدر من التماسك، كما يتضح من تدخل المحكمة العليا لوقف قرار إقالة رئيس الشاباك.
يبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن إسرائيل من تجاوز هذه الأزمة والخروج منها أكثر قوة، أم أنها بالفعل تسير في طريق تحقق “لعنة العقد الثامن” ومسار لا رجعة فيه نحو التفكك والانهيار؟