تقرع طبول الصراع من جديد في جنوب السودان، حيث تتسارع الأحداث نحو مواجهة قد تعيد البلاد إلى أتون الحرب الأهلية. في مشهد يحمل ملامح العاصفة، تتراكم سحب التوتر فوق جوبا، مع تصاعد الخلافات بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، وسط حملات اعتقال وتحركات عسكرية تنذر بانفجار وشيك. هل يتحول هذا التصعيد إلى مواجهة دامية، أم أن هناك فرصة أخيرة لتجنب السقوط في الهاوية؟ في هذا التقرير، نكشف خفايا الأزمة ونستشرف مستقبل البلاد في ظل احتمالات انهيار السلام الهش.
تشهد جمهورية جنوب السودان تصاعداً غير مسبوق في التوترات السياسية منذ مطلع عام 2025، مع تزايد المؤشرات على انهيار اتفاقية السلام الموقعة عام 2018 بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار. تبلور التصعيد الأخير في سلسلة اعتقالات طالت حلفاء مشار، وحصار مقر إقامته، وسط تحذيرات دولية من عودة البلاد إلى حرب أهلية شاملة. يُقدّم هذا التقرير تحليلاً متعدد الأبعاد للأزمة، مع التركيز على الجذور التاريخية والانقسامات الإثنية، وتقييم احتمالات اعتقال مشار كحدثٍ محتملٍ يُعيد رسم الخريطة السياسية.
السياق التاريخي: من شراكة السلطة إلى شفير الهاوية مسار الصراع بين كير ومشار (2013-2018) تعود جذور الأزمة الحالية إلى الانقسامات داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) عام 2013، والتي تحوّلت إلى حرب أهلية أودت بحياة 400 ألف شخص ونزوح 2.5 مليون. أدّى الاتفاق المنشط للسلام عام 2018 إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكنّ التعايش بين كير (من قبيلة الدينكا) ومشار (من قبيلة النوير) ظلّ هشّاً بسبب تنافسٍ مركب على السلطة والموارد. فشلت الحكومات المتعاقبة في معالجة الأسباب الهيكلية للصراع، مثل تقاسم عائدات النفط (الذي يُشكّل 98% من إيرادات الدولة)، وإصلاح القطاع الأمني.
اتفاقية 2018: إخفاقات التنفيذ وأسباب الانهيار رغم النصّ على دمج 83 ألف مقاتل من قوات مشار في الجيش الوطني، لم يُنفّذ سوى 40% من هذه الخطة بحلول 2024. كما أخفقت الحكومة في إصدار الدستور الدائم، وتأجلت الانتخابات مرتين (2023 ثم 2025)، مما زاد من فقدان الثقة بين الأطراف. يُشير تحليل بنود الاتفاقية إلى غياب آليات رقابة فعّالة، حيث اعتمدت بشكلٍ كليّ على الوساطات الخارجية من “إيقاد” والأمم المتحدة دون بناء مؤسسات وطنية.
الأزمة الحالية: تفاصيل التصعيد ومساراته موجة الاعتقالات وحصار مشار (مارس 2025) شهدت العاصمة جوبا تصعيداً غير مسبوق بدءاً من 5 مارس 2025، عندما اعتقلت القوات الحكومية نائب رئيس هيئة الأركان جابرييل دوب لام، ووزير النفط فوت كانج شول، وهما من أبرز حلفاء مشار. تلا ذلك نشر قوات أمنية مكثّفة حول مقر إقامة نائب الرئيس، في خطوةٍ وُصفت بـ”الانقلاب الناعم”. ردّت الحركة الشعبية (جناح مشار) بتجميد مشاركتها في مؤسسات الحكم، واتهمت كير بـ”تصفية الشراكة السياسية”.
المعارك في أعالي النيل: اختبار لقوة الطرفين بالموازاة مع الأحداث في جوبا، اندلعت مواجهات عنيفة في ولاية أعالي النيل بين الجيش الحكومي و”الجيش الأبيض” (ميليشيا نُويرية موالية لمشار). سيطرت الميليشيا على بلدة الناصر الحدودية مع إثيوبيا، في مؤشرٍ على تصاعد القدرات العسكرية للفصائل الموالية لمشار. تُظهر الخرائط العسكرية توسّع سيطرة الميليشيات إلى 30% من أراضي الولاية، مما يهدّد طرق إمدادات النفط الحيوية.
العوامل الإثنية: الوقود الخفي للأزمة صراع الهويات: الدينكا مقابل النوير تُعتبر الانقسامات العرقية المحرك الأساسي للصراع، حيث تشكّل قبيلة الدينكا 35% من السكان، مقابل 15% للنوير. استخدم كير خطاباً شعبوياً يعزّز هيمنة الدينكا على المؤسسات العسكرية (75% من قيادات الجيش) والاقتصادية (السيطرة على 80% من عقود النفط). من جهته، حوّل مشار أزمته مع كير إلى قضية جماعية لقبيلة النوير، مستفيداً من الإحباط المتصاعد بسبب التهميش المنهجي.
دور الميليشيات القبلية في تعقيد المشهد برزت مجموعات مثل “الجيش الأبيض” كفاعلٍ مركزيّ في المعادلة الأمنية. تعتمد هذه الميليشيات على تمويل ذاتي عبر تهريب النفط والاتجار بالسلاح عبر الحدود الإثيوبية، مع تقديرات تفيد بامتلاكها 15 ألف مقاتل مدعومين بدبابات ومدافع هاون. أدّى تنامي نفوذها إلى تقويض احتكار الدولة للعنف، وصعّد من مخاطر الحرب بالوكالة.
التداعيات الإقليمية والدولية: صراع المصالح موقف الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي حذّرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) من “انهيار كامل لاتفاقية السلام”، ودعت إلى فرض عقوبات مستهدفة على المسؤولين عن العنف. لكنّ مقترحات مجلس الأمن واجهت معارضةً من روسيا والصين، اللتين ترى في الأزمة شأناً داخلياً. من جانبه، دعا الاتحاد الأفريقي إلى تشكيل لجنة تحقيق ثلاثية، لكنّ الخطوة لم تحظَ بقبول الأطراف المحلية.
دور القوى الإقليمية: إثيوبيا وأوغندا تتصاعد المخاوف من تدخّل إثيوبيا عبر دعم الميليشيات النُويرية في أعالي النيل، بينما تحتفظ أوغندا بقواعد عسكرية في جوبا دعماً لكير. تُظهر وثائق مسربة تعهّداً إثيوبياً بتزويد “الجيش الأبيض” بصواريخ أرض-جو مقابل منح امتيازات نفطية، في حين تُشير تقارير استخباراتية إلى وجود مرتزقة إماراتيين ضمن القوات الحكومية.
احتمالات اعتقال مشار: السيناريوهات والتداعيات المبررات القانونية والسياسية تُعتبر التهم الموجهة لمشار (دعم التمرد، التخطيط لانقلاب) ذريعةً لتصفيته سياسياً. يُشير القانون الجنائي لجنوب السودان إلى عقوبة الإعدام لمَن يُدان بالتمرد، لكنّ خبراء قانونيين يشككون في وجود أدلة قاطعة. من الناحية العملية، يهدف كير إلى تفكيك شبكة النفوذ المتبقية لمشار قبل الانتخابات الموعودة عام 2026.
التحديات العسكرية والأمنية يُقدّر المحللون العسكريون أن اعتقال مشار يتطلب تحريك 5 كتائب على الأقل (نحو 3,000 جندي)، مع احتمال مواجهة مقاومة شرسة من الحرس الشخصي المكوّن من 500 عنصر مدربين تدريباً عالياً. كما قد يدفع الاعتقال الميليشيات النُويرية إلى شن هجمات انتقامية على منشآت النفط في الوحدة وولاية جونقلي.
ردود الفعل الدولية المُحتملة قد يُثير الاعتقال إدانةً من الغرب، لكنّ تأثيرها سيكون محدوداً في ظلّ التنافس الدولي على موارد البلاد. من المرجح أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات فردية على مسؤولين، بينما قد تقدم الصين وساطةً سريةً لحماية استثماراتها النفطية.
الآثار الاقتصادية: النفط بين الصراع والاستقرار تراجع الإنتاج النفطي وانهيار العملة انخفض إنتاج النفط من 350 ألف برميل يومياً (2011) إلى 155 ألفاً في 2025، بسبب تدمير البنية التحتية في الولايات المنتجة. وفّقاً لبيانات البنك المركزي، فقد الجنيه الجنوب سوداني 80% من قيمته منذ 2022، مع تضخم سنوي بلغ 550% في يناير 2025.
تأثير الأزمة على المدن الرئيسية شهدت جوبا انهياراً في الخدمات الأساسية؛ حيث يعتمد 90% من السكان على المساعدات الإنسانية، بينما توقفت 70% من المدارس عن العمل بسبب النزوح. في المقابل، تحوّلت مدن مثل بنتيو وملقال إلى معاقل لقوات مشار، مع اقتصاد موازٍ يعتمد على التهريب و”الضرائب” المحلية.
الخلاصة: مستقبل غامض وسبل محتملة للاحتواء تواجه جنوب السودان مفترق طرق وجودي: فإمّا الانزلاق نحو حرب أهلية جديدة ذات طابع إثني واضح، أو إطلاق حوار وطني شامل بضمانات دولية. يتطلب الخيار الثاني خطوات عملية، مثل تشكيل حكومة تكنوقراط، وإصلاح القطاع الأمني، وتأجيل الانتخابات حتى استكمال التعداد السكاني. في كل الأحوال، يبقى مصير رياك مشار محورياً في تحديد مسار الأحداث، سواء عبر اعتقاله أو نجاحه في تحويل الأزمة إلى رافعة تفاوضية جديدة.