على حافة الحرب الأهلية: سيناريوهات متوقعة لجنوب السودان بعد اعتقال رياك مشار
كشفت مصادر أمنية في جنوب السودان عن اعتقال نائب الرئيس رياك مشار في تطور خطير يهدد بإعادة البلاد إلى دوامة الصراع المسلح. يأتي هذا التصعيد غير المسبوق بعد سلسلة من الاعتقالات طالت حلفاء مشار وحصار مقر إقامته، وسط تحذيرات دولية من عودة البلاد إلى حرب أهلية شاملة. مع تصاعد التوترات بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، تتأرجح الدولة الفتية على حافة الهاوية، فما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل جنوب السودان في ظل هذا التطور الدراماتيكي؟
خلفية الأزمة: من شراكة السلطة إلى حافة الانهيار
بدأت الأزمة الحالية في مطلع مارس 2025، حين سادت حالة من التوترات الشديدة في العاصمة جوبا على خلفية اعتقال قيادات بارزة موالية لمشار، أبرزهم نائب رئيس هيئة الأركان الفريق جابرييل دوب لام ووزير البترول بوت كانج تشول. وقد أدانت الحركة الشعبية في المعارضة بقيادة مشار هذه الاعتقالات، معتبرة إياها “انتهاكاً صارخاً لاتفاقية السلام المنشطة”.
تعود جذور الصراع إلى الانقسامات داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2013، والتي تحولت إلى حرب أهلية أودت بحياة 400 ألف شخص ونزوح 2.5 مليون. وعلى الرغم من توقيع اتفاق السلام عام 2018 الذي أدى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، ظل التعايش بين كير (من قبيلة الدينكا) ومشار (من قبيلة النوير) هشاً بسبب الخلافات المستمرة حول تقاسم السلطة والموارد.
سيناريوهات ما بعد اعتقال مشار
السيناريو الأول: العودة إلى الحرب الأهلية الشاملة
يُعدّ هذا السيناريو الأكثر قتامة، حيث قد يدفع اعتقال مشار الميليشيات النوّيرية إلى شن هجمات انتقامية على منشآت النفط في ولايتي الوحدة وجونقلي. ومما يزيد من احتمالية هذا السيناريو سيطرة “الجيش الأبيض” (ميليشيا النوير) على بلدة الناصر الحدودية مع إثيوبيا بعد اشتباكات مع القوات الحكومية.
وفقاً للتحليلات العسكرية، فإن المواجهة قد تتطور إلى حرب أهلية ذات طابع إثني واضح، خاصة مع تمركز قوات مشار في مدن مثل بنتيو وملقال، والتي تحولت إلى معاقل لقواته مع اقتصاد موازٍ يعتمد على التهريب و”الضرائب” المحلية.
السيناريو الثاني: انقلاب ناعم وتصفية سياسية
تشير الوقائع على الأرض إلى احتمالية استكمال الرئيس سلفا كير لما وصفته مصادر بـ”الانقلاب الناعم” عبر استبدال مشار بشخصية أكثر طواعية من قبيلة النوير. ويهدف كير من خلال هذه الخطوة إلى تفكيك شبكة النفوذ المتبقية لمشار قبل الانتخابات المقررة عام 2026، مستخدماً تهماً مثل “دعم التمرد” و”التخطيط لانقلاب” كذريعة لتصفيته سياسياً.
وقد أوضحت المصادر أن قرار اعتقال رياك مشار جاء بعد فشل الوساطات المتعددة بين سلفاكير ومشار من أجل نزع فتيل الأزمة، حيث كان قد تم وضعه تحت الإقامة الجبرية وحراسة من قبل قوات جيش جنوب السودان قبيل اعتقاله.
السيناريو الثالث: التدخل الدولي والإقليمي
من المرجح أن تتدخل قوى إقليمية ودولية لمنع انزلاق البلاد مجدداً إلى الحرب. تُظهر المؤشرات احتمالية تدخل إثيوبيا عبر دعم الميليشيات النوّيرية في أعالي النيل، بينما تحتفظ أوغندا بقواعد عسكرية في جوبا دعماً لكير.
على الصعيد الدولي، حذّرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) من “انهيار كامل لاتفاقية السلام”، ودعت إلى فرض عقوبات مستهدفة على المسؤولين عن العنف. كما دعا الاتحاد الأفريقي إلى تشكيل لجنة تحقيق ثلاثية، مع احتمال ضغوط دولية للإفراج عن مشار وإعادة صياغة اتفاق السلام بضمانات أقوى.
السيناريو الرابع: حكومة تكنوقراط وإصلاح مؤسسي
يطرح بعض المحللين إمكانية التوصل إلى حل وسط يتضمن إطلاق سراح مشار مقابل تشكيل حكومة تكنوقراط، وإصلاح القطاع الأمني، وتأجيل الانتخابات حتى استكمال التعداد السكاني. لكن هذا السيناريو يبدو الأضعف في ظل تصاعد حدة المواجهة وفقدان الثقة بين الطرفين.
التداعيات الاقتصادية والإنسانية للأزمة
يواجه اقتصاد جنوب السودان، المعتمد بنسبة 98% على عائدات النفط، انهياراً حاداً مع تراجع الإنتاج النفطي من 350 ألف برميل يومياً (2011) إلى 155 ألفاً في 2025. وفّقاً لبيانات البنك المركزي، فقد الجنيه الجنوب سوداني 80% من قيمته منذ 2022، مع تضخم سنوي بلغ 550% في يناير 2025.
على الصعيد الإنساني، شهدت جوبا انهياراً في الخدمات الأساسية؛ حيث يعتمد 90% من السكان على المساعدات الإنسانية، بينما توقفت 70% من المدارس عن العمل بسبب النزوح. وقد عبّر الناشط المدني إدموند ياكاني، المدير التنفيذي لمنظمة تمكين المجتمع من أجل التقدم، عن قلقه الشديد من الوضع، واصفاً إياه بأنه “مقلق للغاية” و”أثار الذعر العام”.
تحديات أمام استقرار جنوب السودان
مع استمرار الأزمة، تواجه جمهورية جنوب السودان تحديات جسيمة تتمثل في:
- فشل تنفيذ اتفاقية السلام، حيث لم يتم دمج سوى 40% من المقاتلين السابقين في الجيش الوطني بحلول 2024.
- تأجيل إصدار الدستور الدائم والانتخابات مرتين (2023 ثم 2025).
- الصراع على موارد النفط، مع استمرار المواجهات في ولاية أعالي النيل.
- غياب آليات رقابة فعّالة على تنفيذ الاتفاقيات، والاعتماد المفرط على الوساطات الخارجية.
مستقبل غامض
يقف جنوب السودان اليوم على مفترق طرق مصيري بعد اعتقال رياك مشار. ورغم تأكيد الرئيس سلفا كير أن بلاده “لن تعود إلى الحرب”، تشير المؤشرات إلى هشاشة الوضع وإمكانية الانزلاق نحو صراع دامٍ جديد.
يبقى مصير رياك مشار محورياً في تحديد مسار الأحداث، سواء عبر استمرار اعتقاله أو نجاح الضغوط الدولية في الإفراج عنه. وفي كل الأحوال، فإن استقرار أحدث دولة في العالم يتطلب معالجة جذرية للأسباب الهيكلية للصراع، وليس مجرد إعادة ترتيب توازنات القوى السياسية.