في عالمٍ يحكمه المال والنفوذ، قد يتحوَّل بائع طعام شعبي إلى تهديدٍ إقليمي، وقد تصبح وجبة الكبدة الساخنة أكثر خطرًا من بيانات الساسة وخطب المسؤولين. إبراهيم الطوخي، الرجل الذي لم يحمل سلاحًا يومًا، لم يكن يدري أن تطوعه بإطعام اللاجئين ودعمه العلني للقضية الفلسطينية سيضعه في قلب معركةٍ رقميةٍ عابرة للحدود.
بمجرد إعلان وفاته، لم تتركه الجيوش الإلكترونية السعودية يرحل بسلام، بل انقضَّت عليه بهجماتٍ ممنهجة، تسعى لمسح إرثه البسيط وتشويهه، وكأن دعمه لغزة ومساعدته للفقراء كانت جريمةً تستحق العقاب حتى بعد الموت! كيف تحوَّلت شخصيةٌ مصريةٌ محلية إلى هدفٍ لحربِ تصفيةٍ معنوية؟ وما الذي يخشاه أولئك الذين أطلقوا عليه سهامهم من خلف شاشاتٍ مأجورة؟!
إبراهيم الطوخي.. من البساطة إلى “التهديد”
مسيرة اقتصادية تُقلق الأنظمة
إبراهيم الطوخي، بائع السمين والكبدة الشهير في حي المطرية بالقاهرة، لم يكن مجرد وجهُ طعامٍ شعبي، بل تحول إلى رمزٍ للكفاح الإنساني عبر دعمه المُعلَن للقضية الفلسطينية وتقديم وجبات مجانية للاجئين السودانيين في مصر.
ومع انتشار خبر وفاته المفاجئة في 27 مارس 2025، تصاعدت موجة هجومية ممنهجة من حسابات تُنسب إلى “الذباب الإلكتروني السعودي”، مستهدفةً سمعته ومسيرته. هذا الهجوم يُثير تساؤلاتٍ عن دوافع اختراق الحدود الرقمية لاستهداف شخصيةٍ محليةٍ مصرية، وكيف تحوَّلت قضية إنسانية إلى ساحة لصراعات جيوسياسية.
اشتهر الطوخي ببيع وجباته بأسعارٍ زهيدة (5 جنيهات للساندويتش)، مما جعله ملجأً للفقراء والعمالة اليومية. لكن شُهرته تجاوزت مصر عبر منصات مثل “تيك توك”، حيث وصلت متابعوه إلى مئات الآلاف.
لم تكن مشكلته مع السلطات المصرية مجرد مخالفات تراخيص، بل تحوَّلت إلى مصدر قلقٍ لجهاتٍ إقليمية، خاصة بعد تصريحاته الداعمة لغزة: “الجملي هو أملي.. وأملي أن تُحرر فلسطين”. هنا، تحوَّل الرمز الشعبي إلى ناقلٍ لخطابٍ معادٍ للتطبيع، وهو ما يهدد سرديات دولٍ تسعى لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.




الدعم السوداني: خط أحمر جيوسياسي
قدم الطوخي وجبات مجانية للسودانيين النازحين إلى مصر بسبب الحرب الأهلية، وهو ما وثَّقته صفحات مثل “الجالية السودانية في مصر”.
هذه الخطوة، وإن بدت إنسانية، إلا أنها لامست صراعًا خفيًّا بين السعودية والسودان، خاصة بعد اتهام الرياض لدعم الإمارات لقوات الدعم السريع المتمردة. الدعم الشعبي المصري للسودانيين يُعتبر تحدِّيًا للسياسات السعودية الرامية إلى عزل السودان دوليًّا.
آليات الذباب الإلكتروني السعودي.. من التضليل إلى التصفية المعنوية
تعريف الذباب الإلكتروني: الأداة القذرة
الذباب الإلكتروني مصطلح يُطلق على شبكات الحسابات الوهمية المُدارة بواسطة برمجيات أو أفراد لخدمة أجندات سياسية. في السعودية، تُدار هذه الحسابات عبر جهات أمنية، مثل “مركز الإعلام الجديد”، بهدف تشويه المعارضين وتعزيز السردية الرسمية. تعمل هذه الشبكات عبر:
- التضليل: نشر معلومات مغلوطة عن الضحية.
- التشويه: ربط الشخص بقضايا إرهاب أو فساد.
- التصعيد: تحريض الرأي العام عبر هاشتاجات مُوجَّهة.
هجوم مُمنهج على الطوخي: تحليل المحتوى
بعد وفاة الطوخي، انتشرت هاشتاجات مثل #الطوخي_داعم_للإرهاب و**#مطعم_المطرية_مصدر_أمراض**، مدعومةً بفيديوهات مُفبركة تزعم تورطه بتمويل جماعات مسلحة. بعض الحسابات السعودية ادَّعت – دون أدلة – أن وجباته المجانية للسودانيين “تخفي تمويلًا لميليشيات”، مستغلةً الحرب الأهلية السودانية لتشويه صورة الدعم الإنساني.

الخلفية الجيوسياسية.. لماذا استُهدِف الطوخي؟
الصراع الخليجي-السوداني: تداعيات على الأرض
اتهم السودان الإمارات بدعم قوات الدعم السريع خلال حرب دارفور، وهو ما دعمته تقارير أممية. السعودية، الحليف التقليدي للإمارات، رأت في دعم الطوخي للسودانيين تحديًا لسياساتها الإقليمية، خاصة مع تصاعد المطالبات بمحاكمة الإمارات دوليًّا. هنا، تحوَّل الدعم الإنساني إلى سلاحٍ في حرب الوكالات بين الرياض والخرطوم.
معاداة التطبيع: رسالة غير مباشرة
تصريحات الطوخي المؤيدة لفلسطين جاءت في توقيتٍ حساس، حيث تواصل السعودية مفاوضاتٍ سرية مع إسرائيل للتطبيع. الهجوم الإلكتروني عليه يُعتبر تحذيرًا للمصريين بعدم تجاوز “الخط الأحمر” في دعم القضية الفلسطينية، خاصة مع تصاعد دور مصر الإقليمي كوسيطٍ في مفاوضات غزة.
الذباب الإلكتروني كأداة قمع عابرة للحدود
من مصر إلى السودان: نفس الاستراتيجية
كشفت وثائق ويكيليكس عام 2023 عن تعاونٍ سعودي-إماراتي في إدارة شبكات ذبابٍ إلكتروني لمهاجمة ناشطين سودانيين. الهجوم على الطوخي يُكرِّس هذه الاستراتيجية، حيث تُستخدم الحسابات الوهمية لاستهداف شخصياتٍ مؤثرة في دولٍ ثالثة، كتحذيرٍ من تجاوز السياسات الخليجية.
التضامن الشعبي كتهديد
الدعم الجماهيري الواسع للطوخي، خاصة بعد إغلاق مطعمه عام 2021، كشف عن قوة الرأي العام المصري في مواجهة السياسات الاقتصادية القاسية. السعودية، التي تستثمر مليارات الدولارات في مصر، رأت في هذا التضامن خطرًا على نفوذها، فحوَّلت الطوخي إلى “عبرة” لمن يُعارضون التحالفات الإقليمية.
عندما تتحول الوجبة الشعبية إلى سلاح
الهجوم على إبراهيم الطوخي ليس حدثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة قمعٍ رقميٍ تُمارسه دول الخليج ضد أي صوتٍ يُهدد مصالحها. القضية تكشف كيف تحوَّلت المنصات الرقمية إلى ساحات حربٍ بالوكالة، حيث تُسحق الحقوق الإنسانية تحت أقدام الجيوش الإلكترونية. في النهاية، يُذكرنا مصير الطوخي بأن الكفاح اليومي للفقراء قد يُصبح – في عصر الرقمنة – جريمةً تستحق الإعدام المعنوي.