في ساحة العدالة الدولية، حيث تتقاطع السياسة بالقانون، والاتهامات بالحقائق، يُفتح ملف جديد يُنذر بعاصفة دبلوماسية قد تعصف بعلاقات الدول. هناك، في قصر السلام بلاهاي، حيث تُنطق الأحكام التي تهز عروشًا وتعيد تشكيل خريطة النفوذ، يقف السودان في مواجهة الإمارات، متهمًا إياها بالضلوع في جريمة لا تغتفر: الإبادة الجماعية.
ليست هذه مجرد دعوى قانونية، بل هي فصول من مأساة إنسانية كُتبت بدماء الأبرياء في دارفور، حيث ارتفعت صرخات الضحايا فوق الركام، وحيث سُطّرت شهادات القتل والتهجير بحبر الدموع والمعاناة. ومع تحديد محكمة العدل الدولية موعدًا لجلسات الاستماع، تتجه أنظار العالم إلى ما قد يصبح أحد أكثر القضايا تعقيدًا وتأثيرًا في الصراع السوداني، فهل ستتمكن العدالة الدولية من كشف المستور، أم أن أروقة السياسة ستعيد كتابة السيناريو على طريقتها؟
خلفية النزاع وتفاصيل الدعوى السودانية
أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي أنها ستنظر في دعوى رفعها السودان ضد الإمارات العربية المتحدة، متهمةً إياها بالتورط في جرائم إبادة جماعية. وحددت المحكمة يوم الخميس الموافق 10 أبريل 2025 موعدًا لجلسات استماع علنية في قصر السلام، مقر المحكمة، للنظر في طلب السودان الخاص بفرض تدابير مؤقتة ضد الإمارات، متهمةً إياها بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
رفعت الحكومة السودانية دعواها في السادس من مارس 2025، متهمةً الإمارات بالتواطؤ في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد عرقية المساليت في ولاية غرب دارفور، من خلال تقديم الإسناد العسكري والمالي والسياسي لقوات الدعم السريع المتمردة. ويأتي هذا الاتهام في سياق الحرب الأهلية الطاحنة التي تعصف بالسودان منذ عامين، حيث تخوض قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) حربًا ضارية ضد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان.

تفاصيل الانتهاكات المزعومة وطلبات السودان
تشير الدعوى السودانية إلى سلسلة من الهجمات العرقية الدموية التي شنتها قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها ضد قبيلة المساليت غير العربية عام 2023 في منطقة غرب دارفور. وقد وثقت وكالة رويترز هذه الهجمات بالتفصيل، بينما أعلنت الولايات المتحدة رسميًا في يناير 2025 أن ما حدث هناك “يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية”.
وتستند الشكوى السودانية إلى تقارير موثقة تشير إلى رصد طائرات إماراتية وهي تنقل أسلحة إلى قوات الدعم السريع عبر مطار في تشاد، في الوقت الذي زعمت فيه الإمارات أن هذه الرحلات كانت مخصصة لدعم مستشفى ميداني. وبناءً على هذه المعطيات، طلب السودان من المحكمة إصدار تدابير طارئة تأمر الإمارات بوقف دعمها لقوات الدعم السريع، ومنع أي أعمال إبادة جماعية مستقبلية ضد المساليت، بالإضافة إلى تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالسودان بسبب التدخل الإماراتي.

الموقف الإماراتي من الاتهامات
لم تصدر الإمارات حتى الآن تعليقًا جديدًا عقب إعلان المحكمة موعد جلسات الاستماع، لكن في مارس 2025، أصدرت بيانًا نددت فيه بالدعوى، واصفة إياها بأنها “حيلة دعائية خبيثة” تهدف إلى تشويه سمعتها. كما أكدت أن السودان يسعى إلى تشتيت الانتباه عن انتهاكات الجيش السوداني نفسه، ووصفت الاتهامات بأنها “تفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي”.
وعلى الرغم من النفي الإماراتي القاطع لأي تورط في دعم قوات الدعم السريع، إلا أن تقارير من الأمم المتحدة ومشرعين أمريكيين أكدت وجود أدلة ذات مصداقية بشأن تقديم الإمارات مساعدات عسكرية ومالية لميليشيات الدعم السريع.
الإجراءات القانونية لمحكمة العدل الدولية والتوقيت المتوقع
تمثل جلسات الاستماع القادمة خطوة حاسمة في هذه القضية الدولية الشائكة، حيث ستنظر المحكمة في طلب السودان لاتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الدعم الإماراتي المزعوم لقوات الدعم السريع.
ورغم أن القضايا أمام محكمة العدل الدولية تستغرق سنوات طويلة قبل إصدار الأحكام النهائية، إلا أن القرارات الخاصة بـ التدابير العاجلة يمكن أن تصدر خلال أسابيع أو أشهر قليلة، مما قد يؤثر بشكل مباشر على مسار الحرب الأهلية في السودان، وعلى موقف الإمارات في المجتمع الدولي.
تداعيات الصراع السوداني وأبعاد القضية
يأتي رفع هذه الدعوى في وقت يواجه فيه السودان أزمة إنسانية غير مسبوقة بسبب الحرب المستمرة منذ أبريل 2023، حيث قُتل أكثر من 20 ألف شخص، بينما نزح نحو 15 مليون سوداني داخليًا وخارجيًا، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وتشير أبحاث جامعات أمريكية إلى أن عدد القتلى الحقيقي قد يصل إلى 130 ألف شخص.
وكان السودان قد قدم شكوى سابقة إلى مجلس الأمن الدولي، متهمًا الإمارات بتقديم دعم مباشر لقوات الدعم السريع، وهو ما اعتبرته “عدوانًا يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة”، ويشكل تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الإقليمي.
وتبدو هذه القضية أكثر من مجرد نزاع قانوني، بل هي مواجهة سياسية ودبلوماسية قد تغير ملامح المشهد السوداني والإقليمي. فإذا تمكن السودان من إثبات تورط الإمارات، فقد تواجه أبوظبي ضغوطًا دولية متزايدة، وقد تضطر إلى إعادة حساباتها في ملف الدعم العسكري الخارجي.
في المقابل، إذا استطاعت الإمارات دحض هذه الاتهامات، فقد تنقلب الطاولة سياسيًا، مما يمنحها ورقة ضغط دبلوماسية قوية ضد السودان وحلفائه.
في كل الأحوال، فإن جلسات المحكمة المقبلة لن تكون مجرد جلسات قانونية، بل ستكون معركة دولية على الحقيقة، حيث ستحاول كل دولة تقديم حججها وأدلتها في ساحة القضاء العالمي. وبينما يترقب العالم ما ستؤول إليه هذه المواجهة، يبقى الأمل معلقًا بأن ينتصر العدل، وأن تجد معاناة أهل دارفور من ينصفهم، ولو بعد حين.