تسببت الحالة الصحية الأخيرة لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في إثارة تساؤلات حول مستقبل المنصب الديني الأعلى في مصر والعالم الإسلامي السني.
فقد تعرض فضيلته مؤخراً للإصابة بنزلة برد شديدة نصحه الأطباء على إثرها بالراحة لمدة ثلاثة أيام، مما أدى إلى إلغاء ارتباطاته ولقاءاته المقررة.
ورغم أن حالته لا تدعو للقلق الشديد، إلا أن هذا الحدث أعاد إلى الواجهة سؤالاً مهماً: من سيخلف الإمام الطيب على كرسي المشيخة في حال شغور المنصب؟ وهو تساؤل طبيعي نظراً لأن فضيلته يبلغ من العمر 79 عاماً، ويشغل المنصب منذ عام 2010، أي منذ نحو 15 عاماً.

آلية اختيار شيخ الأزهر بين التقليد والتغيير
تخضع آلية اختيار شيخ الأزهر لعدة محددات قانونية وسياسية، وقد شهدت تطورات ملحوظة خلال العقود الأخيرة.
فوفقاً لقانون الأزهر، يتم انتخاب شيخ الأزهر من بين ثلاثة من أعضاء هيئة كبار العلماء عن طريق الاقتراع السري المباشر. ويشترط فيمن يتولى هذا المنصب أن يكون عالماً فاضلاً مرموقاً غزير العلم واسع الاطلاع وأدرى بشؤون الحياة.
غير أن التطبيق العملي لهذه الآلية شهد تغيرات مهمة. فقد كان تعيين الدكتور أحمد الطيب نفسه في 19 مارس 2010 بقرار مباشر من الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، خلفاً للدكتور محمد سيد طنطاوي. وقد أيد الطيب لاحقاً فكرة جعل منصب شيخ الأزهر بالانتخاب وليس بالتعيين من قبل رئيس الجمهورية.
تظهر هذه التغيرات في آلية الاختيار صراعاً محتدماً بين مؤسسات الدولة المصرية حول نفوذها في تعيين القيادات الدينية.
فقد شهدنا نموذجاً لهذا الصراع في تجديد تعيين شوقي علام مفتياً للديار المصرية عام 2021، حيث استأثر الرئيس السيسي بتعيينه رغم بلوغه سن التقاعد، متجاوزاً ترشيحات مشيخة الأزهر، مما اعتبره مراقبون تهميشاً لدور الأزهر.

المرشحون لخلافة الطيب
في ضوء المعطيات الحالية، يمكن تحديد عدة شخصيات بارزة قد تكون مرشحة لتولي منصب شيخ الأزهر في المستقبل:

الدكتور علي جمعة
يبرز الدكتور علي جمعة كأحد أبرز المرشحين لخلافة الإمام الطيب. وهو من مواليد 3 مارس 1952 (73 عاماً)، وشغل منصب مفتي الديار المصرية خلال الفترة من 2003 إلى 2013. وهو عضو في هيئة كبار العلماء بالأزهر، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية، واختير ضمن أكثر خمسين شخصية مسلمة تأثيراً في العالم لإثني عشر عاماً على التوالي.
يتمتع الدكتور علي جمعة بعلاقات قوية مع النظام السياسي الحالي، وهو عضو معين من الرئيس السيسي في مجلس النواب منذ 2021، وعضو في المجلس القومي لمكافحة الإرهاب والتطرف تحت رئاسة السيسي. ويعتبر من الشخصيات الدينية المقربة من السلطة، ويتبنى خطاباً دينياً معتدلاً يتماشى مع رؤية الدولة المصرية.
الدكتور أسامة الأزهري
يشار إلى الدكتور أسامة الأزهري كأحد تلاميذ علي جمعة المشهورين، وقد اكتسب شهرة واسعة في السنوات الأخيرة. وهو شخصية دينية شابة نسبياً مقارنة بالآخرين، ويتميز بخطاب ديني متجدد. وقد تشير بعض المصادر إلى تعاون الأزهري مع علي جمعة في مشروع “بناء الشخصية الوطنية المصرية”، مما يعكس تقاربهما الفكري وعلاقتهما بالدولة المصرية.






مرشحون آخرون
في عام 2008، وقبل تعيين الدكتور أحمد الطيب، كان هناك ثلاثة مرشحين رئيسيين لخلافة شيخ الأزهر آنذاك: الدكتور علي جمعة (مفتي الديار المصرية آنذاك)، والدكتور محمود حمدي زقزوق (وزير الأوقاف)، والدكتور أحمد عمر هاشم. وبينما تغيرت الظروف اليوم، إلا أن بعض هذه الأسماء قد تظل مطروحة، خاصة أن الدكتور محمود حمدي زقزوق لا يزال عضواً في هيئة كبار العلماء بالأزهر رغم تقدمه في السن (84 عاماً).
عوامل مؤثرة في اختيار خليفة الإمام الطيب
العلاقة مع الرئاسة المصرية
شهدت العلاقة بين شيخ الأزهر الحالي والرئيس السيسي توتراً ملحوظاً في عدة مناسبات. فقد وجه السيسي انتقادات علنية لشيخ الأزهر، خاصة فيما يتعلق بتجديد الخطاب الديني. وفي إحدى المناسبات خاطبه قائلاً: “تعبتني يا مولانا”، وفي أخرى قال: “فضيلة الإمام كل ما أشوفه بقول له إنت بتعذبني”.
تعود جذور هذا الخلاف إلى رؤية السيسي لضرورة إحداث “ثورة دينية” لتجديد الفكر الديني، بينما يتمسك الأزهر بثوابت يراها أساسية. ومن أبرز قضايا الخلاف بينهما مسألة الطلاق الشفهي، التي دعا السيسي إلى تقييدها، وموضوع تجديد الخطاب الديني بشكل عام.
هذا الخلاف قد يجعل الرئاسة المصرية تميل إلى اختيار شخصية أكثر انفتاحاً على فكرة تجديد الخطاب الديني، وهو ما قد يصب في صالح مرشحين مثل علي جمعة وأسامة الأزهري.

دور الإمارات العربية المتحدة
تشير عدة مصادر إلى العلاقة الوثيقة التي تربط شيخ الأزهر الحالي بدولة الإمارات العربية المتحدة. فقد تسلم الدكتور أحمد الطيب جوائز إماراتية عديدة، منها جائزة دبي العالمية للقرآن الكريم بصفته “شخصية العام الإسلامية”، وجائزة الشيخ زايد للكتاب كشخصية العام الثقافية بقيمة مليون درهم إماراتي.
كما وقع الإمام الطيب خلال زيارته للإمارات في عام 2019 وثيقة “الأخوة الإنسانية” مع بابا الفاتيكان، بحضور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم والشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وتم الإعلان عن إطلاق “جائزة الأخوة الإنسانية – من دار زايد” ومنحها في دورتها الأولى للإمام الطيب والبابا فرنسيس، بل وقرر الشيخ محمد بن زايد إنشاء “جامع الإمام الطيب” في أبو ظبي.
هذه العلاقة الوثيقة تشير إلى احتمال وجود تأثير إماراتي في اختيار خليفة الإمام الطيب، خاصة إذا كانت الإمارات تدعم استمرار النهج الحالي للأزهر.
روحانية الشيوخ والمقبولية الشعبية
يرى بعض الخبراء أن من معايير اختيار شيخ الأزهر “روحانية الشيوخ” بجانب معايير العلم والأخلاق الكريمة. وقد أشار محمد عبد المنعم البري، أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة بالأزهر، إلى أن بعض المرشحين السابقين كانوا يفتقدون إلى هذه الروحانية.
يضاف إلى ذلك عامل المقبولية الشعبية، حيث يتمتع منصب شيخ الأزهر باحترام وتقدير كبيرين في الشارع المصري والعربي والإسلامي. لذا، قد يؤخذ في الاعتبار مدى قبول الشخصية المرشحة لدى الجماهير.
الخلاصة
في ضوء المعطيات الحالية، يبدو أن اختيار خليفة للإمام أحمد الطيب سيخضع لتوازنات معقدة بين مختلف القوى المؤثرة. ويمكن ترجيح احتمال اختيار شخصية توفيقية تحظى بقبول الرئاسة المصرية من جهة، والمؤسسة الأزهرية والقوى الإقليمية الداعمة من جهة أخرى.
يبرز الدكتور علي جمعة كمرشح قوي نظراً لعلاقته الجيدة بالنظام المصري الحالي، وخبرته الطويلة في المناصب الدينية العليا، وعضويته في هيئة كبار العلماء. غير أن سنه (73 عاماً) قد يكون عائقاً أمام اختياره، إذ قد تفضل الدولة شخصية أصغر سناً.
أما الدكتور أسامة الأزهري، فرغم شهرته المتزايدة وقربه من السلطة، إلا أنه قد يحتاج إلى مزيد من الخبرة والمكانة العلمية ليصل إلى هذا المنصب الرفيع.
في المحصلة، وبغض النظر عن هذه التكهنات، نسأل الله الشفاء العاجل للإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، ودوام الصحة والعافية له، لمواصلة دوره في خدمة الإسلام والمسلمين، والإسهام في نشر قيم الوسطية والاعتدال في العالم.