في عالمٍ ترفع فيه أمريكا راية الديمقراطية كأنها وحيٌ مُنزَل، تتساقط الأقنعة مع أول اختبارٍ حقيقي. كيف لمن ينصب نفسه حاميًا للحرية أن يقمع صوتَ طالبةٍ لم تحمل سلاحًا سوى فكرها؟ كيف لمن يُلقي المواعظ عن الحقوق أن يسلبها بمنطق القوة؟
حادثة اعتقال الطالبة التركية روميسا أوزتورك، وتصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو التي بررت القمع، لم تكن سوى انعكاسٍ فجٍّ لحقيقةٍ حاولت واشنطن طمسها لعقود: أن الديمقراطية التي تدّعيها ليست سوى سلاحٍ يُشهر ضد الضعفاء، بينما يُمنح الأقوياء حق نقضها متى شاؤوا.
ازدواجية الديمقراطية الأمريكية
تشكّل حادثة اعتقال الطالبة التركية روميسا أوزتورك في بوسطن، وتصريحات ماركو روبيو التي برَّرت سحب تأشيرتها، نموذجاً صارخاً للتناقض بين الادعاءات الأمريكية بالالتزام بقيم الديمقراطية وواقع الممارسات القمعية التي تنتهك الحريات الأساسية.
هذه الواقعة ليست معزولة، بل هي حلقة في سلسلة انتهاكات ممنهجة تكشف زيف الشعارات التي ترفعها واشنطن، والتي تُستخدم كأداةٍ للهيمنة الدولية بدلاً من كونها مبادئ حاكمة.
يقول محامي الطالبة :” تم اعتقال روميسا أوزتورك، طالبة دكتوراه في جامعة تافتس والتي لديها تأشيرة F-1 نافذة.روميسا كانت في طريقها للقاء صديقاتها لتناول إفطار رمضان مساء 25 مارس عندما احتجزها عناصر من وزارة الأمن الداخلي قرب منزلها في سومرفيل، ماساتشوستس. لا نعلم مكانها ولم نتمكن من الاتصال بها”.
من “الاستثنائية الأمريكية” إلى صناعة الأسطورة
تأسيس الأسطورة الديمقراطية
تعود جذور الادعاء الأمريكي بالاستثنائية الديمقراطية إلى الخطاب التأسيسي للدولة، الذي روّج لفكرة أن الولايات المتحدة “أمة لا مثيل لها”، مختارةٌ من العناية الإلهية لنشر الحرية.
لكن الوثائق التاريخية تكشف أن الآباء المؤسسين، مثل جيمس ماديسون، صمّموا النظام السياسي ليكون “جمهوريةً نخبوية” تحمي مصالح مالكي العبيد والأثرياء، حيث حُرمت النساء والأمريكيون الأفارقة والسكان الأصليون من الحقوق الأساسية حتى منتصف القرن العشرين.
الديمقراطية كأداة للهيمنة
تحوّلت الدعوة للديمقراطية إلى ذريعةٍ لتبرير التدخلات العسكرية، بدءاً من غزو الفلبين 1899 تحت شعار “تحريرها من الاستبداد الإسباني”، وصولاً إلى غزو العراق 2003 بدعوى “نشر الديمقراطية”.
تشير وثائق ويكيليكس إلى أن 78% من العمليات العسكرية الأمريكية منذ 1945 نُفذت ضد حكوماتٍ منتخبة ديمقراطياً، كما في حالة تشيلي 1973 وإيران 1953.
حادثة أوزتورك: نموذجاً للقمع المنهجي
تفكيك الوقائع
في 27 مارس 2025، اعتُقلت روميسا أوزتورك -طالبة دكتوراه تركية في جامعة تافتس- من قِبل عناصر أمنية ملثمة، دون تهمةٍ محددة، أثناء توجهها لإفطار رمضاني. أظهرت لقطات مصورة عناصراً ينتزعون هاتفها ويُكبّلون يديها، بينما صرخت مستغيثةً دون استجابة. أُلغيت تأشيرتها الدراسية (F-1) بحجة “دعم حماس”، دون تقديم أدلةٍ قضائية، وفقاً لتصريحات روبيو التي اعتبرت النشاط الطلابي “تخريباً”.
النمطية في القمع
تشكّل الحادثة جزءاً من حملةٍ أوسع تستهدف النشطاء المؤيدين لفلسطين، حيث ألغت وزارة الخارجية 300 تأشيرة طلابية منذ أكتوبر 2024، وفقاً لبيانات رسمية. تعكس هذه الإجراءات سياسةً ممنهجةً لقمع المعارضة تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”، حيث يُستخدم قانون مكافحة الإرهاب (المادة 219) لتجريم أي انتقادٍ للسياسة الإسرائيلية.
ازدواجية المعايير: بين الخطاب والممارسة
معايير انتقائية في حرية التعبير
بينما تدّعي الولايات المتحدة حمايةَ “التعديل الأول” الذي يضمن حرية التعبير، فإن تقرير منظمة العفو الدولية 2023 يسجل 127 حالة اعتقالٍ لنشطاء بيئيين ومدافعين عن حقوق الفلسطينيين، مع تصنيف 89% منهم كـ”تهديدات أمنية” دون محاكماتٍ عادلة. بالمقابل، تسمح السلطات لليمين المتطرف بتنظيم مسيراتٍ عنصرية، كما في مسيرة “أحفاد النازيين” في شارلوتسفيل 2024، دون تدخلٍ أمني.
الديمقراطية الداخلية: هيكلٌ غارق في الأزمات
يكشف تحليل الانتخابات الأمريكية عن أزمات بنيوية تتناقض مع الصورة النمطية:
- التلاعب بالدوائر الانتخابية: في 2024، أعادت 19 ولايةً ذات أغلبية جمهورية تخطيط الدوائر لتصغير تمثيل الأقليات، وفقاً لمركز برينان للعدالة.
- تأثير رأس المال: أنفق المرشحون 14.4 مليار دولار على حملات 2024، 73% منها من شركاتٍ كبرى، مما حوّل العملية الانتخابية إلى منافسةٍ بين النخب المالية.
- تقييد التصويت: فرضت 34 ولايةً قيوداً على التصويت البريدي، التي يعتمد عليها 58% من الأمريكيين الأفارقة، بحجة “منع التزوير”.
النفاق في السياسة الخارجية: دعم الديكتاتوريات مقابل شعارات الديمقراطية
التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية
تشير وثائق وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن 67% من الدول التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية تُصنف كـ”غير ديمقراطية” من قبل مؤشر الديمقراطية العالمي، بما في ذلك السعودية ومصر. في 2023، زودت واشنطن النظام السعودي بأسلحةٍ بقيمة 23.4 مليار دولار، رغم سجله في قمع الحريات وتنفيذ 184 حكماً إعداماً.
معايير مزدوجة في ملف حقوق الإنسان
بينما تفرض عقوباتٍ على دولٍ مثل فنزويلا بحجة “انتهاكات حقوق الإنسان”، تُغاضي الإدارة الأمريكية عن انتهاكات إسرائيل في فلسطين:
- الدعم العسكري: تلقت إسرائيل 3.8 مليار دولار كمساعدات عسكرية سنوياً، استُخدمت في قتل 34,000 فلسطيني منذ 2023.
- الحماية الدبلوماسية: استخدمت الولايات المتحدة الفيتو 43 مرةً في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من المساءلة منذ 2000.
التداعيات: تآكل المصداقية العالمية
انكشاف الأسطورة في الرأي العام العالمي
أظهر استطلاع مركز بيو 2025 أن 68% من سكان 35 دولةً يرون أن الولايات المتحدة “تساهم في زعزعة الاستقرار العالمي”، بينما يعتبر 72% أن دعمها للديمقراطية “مزيفٌ لخدمة أجندتها”. في المقابل، ارتفعت مصداقية الصين كـ”داعمةٍ للتنمية” إلى 59%، وفقاً لنفس الاستطلاع.
الصحوة الداخلية: تحركات المجتمع المدني
شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الاحتجاجات الداخلية ضد السياسات المناقضة للديمقراطية:
- مسيرة “حياة السود مهمة” 2023: شارك 2.1 مليون أمريكي في 120 مدينةً، رفضاً للعنصرية الممنهجة.
- إضرابات الطلاب: نظم طلاب 130 جامعةً إضراباتٍ في أبريل 2024، مطالبين بوقف التمويل العسكري لإسرائيل، مع تعرض 3400 طالبٍ للملاحقة الأمنية.
تتعارض الممارسات الأمريكية الجارية مع المبادئ الديمقراطية الأساسية، حيث تحوّلت الديمقراطية إلى شعارٍ تُخفي تحته هيمنة الأوليغارشية المالية-العسكرية.
تتطلب مواجهة هذا الزيف إعادة تعريف الديمقراطية كعمليةٍ شعبيةٍ تتجاوز الانتخابات الشكلية، لتصبح نظاماً يشمل العدالة الاجتماعية والمساواة الحقيقية واحترام حقوق الشعوب.
إن فضح التناقض الأمريكي ليس هدفاً بحد ذاته، بل خطوةً نحو بناء نظام دوليٍ عادلٍ، تُحترم فيه إرادة الشعوب دون وصايةٍ قمعيةٍ تلبس قناع الديمقراطية.