في مشهدٍ صادم هزّ مشاعر المسلمين حول العالم، انتشر مقطع فيديو يوثق اعتداءً على معتمرة داخل الحرم المكي، مفجّرًا موجةً من الغضب والاستنكار.
لم تكن هذه الواقعة معزولة، بل حلقة جديدة في سلسلة حوادث أثارت تساؤلات خطيرة حول كفاءة إدارة السعودية للمقدسات الإسلامية.
وبينما تتصاعد الدعوات لمراجعة أسلوب إدارة المشاعر المقدسة، تتجه الأنظار نحو تداعيات هذه الأزمة على المشهد السياسي والديني في المنطقة.
هل باتت إدارة الحرمين الشريفين محلّ مساءلة دولية؟ وهل يشكل هذا الحادث نقطة تحول في الجدل المستمر حول تدويل الإشراف على أقدس بقاع الإسلام؟
الخلفية التاريخية
تأسست الهيمنة السعودية على الحرمين الشريفين مع قيام الدولة السعودية الثالثة عام 1932، حيث أصبحت المملكة العربية السعودية مسؤولة عن إدارة المواقع المقدسة بحكم موقعها الجغرافي.
وعلى مدى عقود، حظيت هذه الإدارة بقبول واسع في العالم الإسلامي، نظرًا للاستثمارات الضخمة التي بذلتها الرياض في توسعة الحرمين وتحسين خدمات الحجاج. إلا أن التسعينيات شهدت بدء تيارات إسلامية معارضة تنتقد أداء السعودية، خاصة بعد حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي عام 2015 التي أودت بحياة 107 أشخاص.
أحداث العنف
شكّلت حوادث العنف التي تعرّض لها الحجاج نقطة تحول في النقاش حول شرعية الإدارة السعودية. ففي عام 2014، انتشر مقطع فيديو يظهر اعتداء عنصر أمن على حاجٍّ أمام زوجته، وهو ما كشفت التحقيقات لاحقًا عن قدمه، لكنه أثار تساؤلات حول إجراءات الأمن السعودي.
بلغت الذروة مع حادثة تدافع منى عام 2015 التي راح ضحيتها أكثر من 2000 حاجٍّ، بينهم 464 إيرانيًا وفق مصادر طهران، مما دفع إيران إلى المطالبة علنًا بـ”حلٍّ لإدارة الحرمين” خلال خطابٍ لمرشدها الأعلى علي خامنئي عام 2016.
هذه الدعوات وجدت صدى لدى دولٍ إسلامية أخرى، حيث بدأت الأصوات ترتفع بضرورة إنشاء هيئة إسلامية مشتركة تشرف على إدارة الحرم، على غرار الفاتيكان في الكنيسة الكاثوليكية.
الأبعاد السياسية لجدل التدويل
تتجاوز قضية التدويل الجانب الإداري لتلامس ملفاتٍ جيوسياسية حساسة. فمن ناحية، تُعتبر السعودية إدارة الحرمين رمزًا لشرعيتها الدينية كـ”خادم للحرمين الشريفين”، وهو لقبٌ اتخذه الملك فهد عام 1986 لتعزيز مكانته الروحية.
ومن ناحية أخرى، تتبنى إيران وتركيا وقطر خطابًا نقديًا يُحمّل السعودية مسؤولية الأزمات المتكررة، مستفيدةً من الاحتجاجات الشعبية التي تندد بالانتهاكات الأمنية.
تشير وثائق مسربة إلى أن تركيا دعمت مقترحًا عام 2017 بإنشاء “منظمة التعاون الإسلامي لإدارة الحج”، بهدف تقليص النفوذ السعودي، بينما دعت شخصيات عربية بارزة مثل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي إلى “فاتيكان إسلامي” يشرف على المقدسات.
التداعيات القانونية والدولية
من الناحية القانونية، تثير إدارة الحرمين إشكالاتٍ تتعلق بالسيادة الوطنية مقابل الحقوق الجماعية للمسلمين. فبينما تؤكد السعودية أن الإدارة جزء من سيادتها الكاملة على أراضيها، يستند المدافعون عن التدويل إلى أن الحرمين يمثلان تراثًا إنسانيًا مشتركًا، مما يفرض آليات إشراف دولية.
حاولت منظمة التعاون الإسلامي عام 2019 تقديم مقترحٍ إلى الأمم المتحدة لاعتبار الحرمين “مناطق دولية”، لكن المشروع واجه معارضةً سعودية قوية.
الانتهاكات وشرعية الإدارة
تكشف الوقائع المتكررة عن عنف أمني -سواء عبر فيديوهات قديمة أو تقارير حديثة- عن إشكالات هيكلية في نظام إدارة الحج. فوفقًا لتقرير “هيومن رايتس ووتش” 2023، تعاني القوات الأمنية السعودية من نقص التدريب على التعامل مع الحشود الكبيرة، ما يؤدي إلى استخدام مفرط للقوة في بعض الأحيان.
كما أن المركزية الشديدة في صنع القرار تعيق معالجة الشكاوى بشكل فعال، إذ تفتقر السعودية إلى هيئات مستقلة لمراقبة أداء الأمن خلال المواسم.
المقارنة مع النماذج الدولية
تشير تجارب إدارة الأماكن المقدسة عالميًا إلى إمكانية الجمع بين السيادة الوطنية والإشراف المشترك. ففي القدس، على سبيل المثال، تخضع الأماكن المقدسة لإدارة الأوقاف الإسلامية الأردنية بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، رغم الاحتلال الإسرائيلي.
أما في الفاتيكان، فإن النظام الأساسي للمدينة يعترف بسيادة البابا مع ضمان حقوق الزائرين عبر اتفاقيات دولية.
هذه النماذج تفتح الباب أمام مقترحات لإنشاء مجلس إسلامي دولي يُشارك في الإشراف على الحرمين، مع الحفاظ على السيادة السعودية الشكلية.
ردود الفعل المحلية والدولية
أثارت الحادثة الأخيرة تفاعلاتٍ متباينةً. محليًا، هاجم ناشطون سعوديون تداول الفيديو واعتبروه “مؤامرة لإضعاف مكانة المملكة”، بينما طالب آخرون بتحقيقٍ شفافٍ ومعاقبة المتورطين.
على الصعيد الدولي، دعت تركيا وإيران إلى “مراجعة شاملة لآليات إدارة الحج”، في حين دعمت دولٌ كالسودان والمغرب الموقف السعودي، مؤكدةً على حقها في إدارة مقدساتها.
التحليل القانوني لفرضية التدويل
من الناحية القانونية الدولية، لا يوجد سابقة لتجريد دولةٍ من إدارة مواقع دينية تقع ضمن حدودها، إلا في حالات الاحتلال كما في القدس.
لكن الفقه القانوني يشير إلى إمكانية تطبيق مبدأ “الوصاية الدولية” على الممتلكات الثقافية ذات الأهمية العالمية، كما ينص اتفاق لاهاي 1954. قد يمهد هذا الطريق لمطالبة منظمة التعاون الإسلامي بوضع الحرمين تحت إشرافٍ مشترك، عبر تعديلٍ لاتفاقية منظمة التعاون الموقعة عام 1972.
وتُظهر الأزمة الراهنة الحاجة الماسة لإصلاح نظام إدارة الحرمين عبر خطواتٍ عملية، كإنشاء هيئة استشارية إسلامية تشارك في صنع القرار، وتعزيز الشفافية في الإجراءات الأمنية، وإقامة آلية دولية لتلقي شكاوى الحجاج.
هذه الإجراءات قد تحفظ حقوق المملكة السيادية مع تلبية مطالب المسلمين في المشاركة الرمزية.
في النهاية، إن تدويل الإدارة الكامل يبقى حلًا صعبًا في ظل التوازنات الجيوسياسية الحالية، لكن الحوادث المتكررة تفرض إعادة النظر في النموذج القائم قبل تفاقم الأزمات.