تعيين عبد الرحيم عطون في مجلس الإفتاء الأعلى بسوريا… جدل حول خلفيته الجهادية
أثار تعيين عبد الرحيم عطون، الشرعي العام السابق في هيئة تحرير الشام، عضواً في المجلس الأعلى للإفتاء في سوريا جدلاً واسعاً في الأوساط الدينية والسياسية. يأتي هذا التعيين في سياق إعادة هيكلة المؤسسات الدينية في سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع. تمثل هذه الخطوة تحولاً كبيراً في مسار عطون، الذي كان يُعرف سابقاً بمواقفه الجهادية المتشددة، وتعكس التحولات السياسية والأيديولوجية العميقة التي تشهدها سوريا في مرحلة ما بعد الأسد.
تشكيل المجلس الأعلى للإفتاء ودور أسامة الرفاعي
أصدر الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، مرسومين يقضي أحدهما بتشكيل مجلس أعلى للإفتاء، فيما ينص الآخر على تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية. وقد علل الشرع هذه الخطوة بقوله: “لطالما كانت الشام منبراً علمياً وحضارياً ودعوياً، يصدر منه الخير لعامة الأمة، حتى وقعت سوريا بيد العصابة الفاسدة”، مضيفاً أنه كان لزاماً “إعادة منصب المفتي العام للجمهورية العربية السورية”.
يتألف المجلس الجديد من أسامة الرفاعي رئيساً وعضوية 14 شخصاً من رجال الدين من الطائفة السنية يتبعون لمذاهب فقهية مختلفة، من بينهم محمد راتب النابلسي، ومحمد أبو الخير شكري، ومحمد نعيم عرقسوسي وعبد الفتاح البزم، وخير الله طالب، وعبد الرحيم عطون، ومظهر الويس، إلى جانب عدد من الشخصيات الدينية الأخرى.
خلفية أسامة الرفاعي وأهمية اختياره
يحمل اختيار أسامة الرفاعي (79 عامًا) لرئاسة المجلس دلالات عميقة، فهو شخصية دينية معارضة تعرّضت للضرب والاعتقال عام 2011 بسبب مواقفها المناهضة لنظام الأسد، وأُجبر على النفي إلى تركيا، ثم عاد إلى دمشق مطلع هذا العام وسط استقبال شعبي حافل. وتمثل سيرته الذاتية جسرًا بين التيار التقليدي والثوري، فهو ابن الشيخ الراحل عبد الكريم الرفاعي (أحد أبرز علماء دمشق)، ومؤسس “المجلس الإسلامي السوري” في المنفى، الذي انتخبه مفتيًا عامًا للبلاد عام 2021، كما أنه معروف بمواقفه المعتدلة ورفضه الفكر التكفيري.
خلفية عبد الرحيم عطون ومسيرته المثيرة للجدل
كان عبد الرحيم عطون يشغل منصب الشرعي العام في هيئة تحرير الشام، التي تعتبر من أبرز الفصائل المسلحة في شمال سوريا. وقد تولى سابقاً رئاسة المجلس الأعلى للإفتاء في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ السورية، المدعومة من هيئة تحرير الشام، قبل ما أطلق عليه “التحرير الكبير”.
وفي يناير 2025، نفى عطون الأنباء المتداولة حول تعيينه رئيساً للمجلس الأعلى للإفتاء في سوريا، مؤكداً أن المجلس الجديد لم يكن قد تشكل بعد. وقال في تصريح له: “كنت أتولى رئاسة المجلس الأعلى للإفتاء في مناطق حكومة الإنقاذ السورية ما قبل التحرير الكبير… واليوم، بعد أن منّ الله علينا بفتح دمشق وغالبية أراضي سوريا الشام، فإننا في مرحلة إعادة هيكلة المجلس الأعلى للإفتاء ليشمل كافة مناطق الجمهورية”.
التحول المظهري والفكري لعطون
شهد عطون تحولاً ملحوظاً في مظهره ومنهجه الفكري خلال السنوات الأخيرة. ففي سبتمبر 2021، ظهر في ندوة فكرية بزي مدني بعد أن خلع زيه التقليدي “الجهادي”، مستبدلاً ثوبه العربي ذي الألوان الداكنة ببنطال وقميص فاتح، وبدا حاسر الرأس دون الغطاء التقليدي، مع لحية أقل كثافة ومهذبة.
وكان هذا التغيير في المظهر جزءاً من تحولات أوسع في فكر عطون وفي نهج هيئة تحرير الشام، التي سعت إلى الابتعاد عن صورتها “الجهادية” المتشددة والانفتاح على المجتمع المحلي والدولي. وقد وصفه البعض بأنه “مهندس تحولات تحرير الشام البراغماتية”.
جهود “تبييض الصفحة” والابتعاد عن الجهادية العالمية
تزامنت تحولات عطون مع جهود حثيثة من قبله ومن قبل أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) لـ”تبييض” صفحة هيئة تحرير الشام والحصول على اعتراف دولي أو على الأقل إزالتها من قوائم الإرهاب. وقد صرح عطون في مقابلة مع صحيفة “Le Temps” السويسرية في سبتمبر 2021 أن الهيئة لا تشكل خطراً على الغرب.
كما طرح عطون رؤية لما أسماه “المسار الثالث” المرتبط بـ”الجهادية المحلية” أو المعتدلة، مشيراً إلى أن هيئة تحرير الشام تمثل نموذجاً جديداً يختلف عن الجهادية العالمية. وكان أحد المؤشرات الرئيسية على هذا التحول هو فك هيئة تحرير الشام لتحالفاتها مع فرعي السلفية الجهادية العالمية: داعش والقاعدة.
الجدل حول تعيين عطون في مجلس الإفتاء
أثار تعيين عطون في المجلس الأعلى للإفتاء انتقادات من قبل بعض التيارات الجهادية المتشددة، التي اتهمته بالتخلي عن المبادئ الجهادية والانضواء تحت مظلة النظام الجديد. فقد وجه الجهاديون المناهضون لتحرير الشام انتقادات لاذعة له بسبب تحوله المظهري والفكري، واتهموه بـ”التمسح بالتجارب الناجحة” دون الالتزام بجوهر الجهاد.
كما أثارت مسألة تعيين شخصية ذات خلفية جهادية في مجلس الإفتاء مخاوف لدى بعض الأوساط المجتمعية حول مدى قدرة هذا المجلس على تقديم فتاوى معتدلة تتناسب مع تطلعات المجتمع السوري المتنوع. ومع ذلك، يرى آخرون أن تجربة عطون وتحولاته قد تكون مفيدة في التعامل مع التيارات المتشددة وإدماجها في المشهد الديني الرسمي.
رؤى متباينة حول الدور المستقبلي للمجلس
تتباين الرؤى حول الدور المستقبلي للمجلس الأعلى للإفتاء ومدى تأثير شخصيات مثل عطون في توجهاته. فبينما يرى البعض أن إعادة هيكلة المجلس خطوة ضرورية لتوحيد المرجعية الدينية في البلاد، يعتبر آخرون أن تشكيلته الحالية تثير تساؤلات حول طبيعة القرارات المرتقبة وأهدافها.
وتشير بعض التحليلات إلى أن المجلس الجديد قد يتبنى نهجاً وسطياً يجمع بين الالتزام بالثوابت الدينية والانفتاح على متطلبات العصر، مستفيداً من تجارب أعضائه المتنوعة، بما فيها تجربة عطون في التحول من الفكر الجهادي المتشدد إلى نهج أكثر اعتدالاً.
تحديات المرحلة الانتقالية والمسار المستقبلي
يمثل تشكيل المجلس الأعلى للإفتاء وتعيين عبد الرحيم عطون ضمن أعضائه جزءاً من التحديات التي تواجه سوريا في مرحلتها الانتقالية. فمن ناحية، يعكس ذلك رغبة السلطات الجديدة في إدماج مختلف التيارات الدينية في المشهد الرسمي، ومن ناحية أخرى، يثير مخاوف حول مدى قدرة هذه المؤسسة على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية والتاريخية.
وتبقى العديد من الأسئلة مطروحة حول مستقبل المؤسسة الدينية في سوريا، وكيفية تعاملها مع إرث الماضي، وقدرتها على تقديم خطاب ديني معتدل يسهم في إعادة بناء النسيج المجتمعي السوري. ومن المؤكد أن تجربة عطون وتحولاته ستكون محل متابعة واهتمام، باعتبارها نموذجاً لإمكانية التحول من الفكر المتشدد إلى التيار الرئيسي في المشهد الديني والسياسي السوري.